الأحد، 9 أكتوبر 2016

*من زاد العاد أكام النبي (ص) في الطلاق


.حُجَجُ الْمَانِعِينَ مِنْ وُقُوعِ الثّلَاثِ:
قَالَ الْمَانِعُونَ مِنْ وُقُوعِ الثّلَاثِ التّحَاكُمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا إلَى مَنْ أَقْسَمَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَصْدَقَ قَسَمٍ وَأَبَرّهُ أَنّا لَا نُؤْمِنُ حَتّى نُحَكّمَهُ شَجَرَ بَيْنَنَا ثُمّ نَرْضَى بِحُكْمِهِ وَلَا يَلْحَقُنَا فِيهِ حَرَجٌ وَنُسَلّمُ لَهُ تَسْلِيمًا لَا إلَى غَيْرِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ اللّهُمّ إلّا أَنْ تُجْمِعَ أُمّتُهُ إجْمَاعًا مُتَيَقّنًا لَا نَشُكّ فِيهِ عَلَى حُكْمٍ فَهُوَ الْحَقّ الّذِي لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ وَيَأْبَى اللّهُ أَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمّةُ عَلَى خِلَافِ سُنّةٍ ثَابِتَةٍ عَنْهُ أَبَدًا وَنَحْنُ قَدْ أَوَجَدْنَاكُمْ مِنْ الْأَدِلّةِ مَا تَثْبُتُ الْمَسْأَلَةُ بِهِ بَلْ وَبِدُونِهِ وَنَحْنُ نُنَاظِرُكُمْ فِيمَا طَعَنْتُمْ بِهِ فِي تِلْكَ الْأَدِلّةِ وَفِيمَا عَارَضْتُمُونَا بِهِ عَلَى أَنّا لَا نَحْكُمُ عَلَى أَنْفُسِنَا إلّا نَصّا عَنْ اللّهِ أَوْ نَصّا ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ إجْمَاعًا مُتَيَقّنًا لَا شَكّ فِيهِ وَمَا عَدَا هَذَا فَعُرْضَةٌ لِنِزَاعٍ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ سَائِغَ الِاتّبَاعِ لَا لَازِمَهُ فَلْتَكُنْ هَذِهِ الْمُقَدّمَةُ سَلَفًا لَنَا عِنْدَكُمْ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ} [النّسَاءُ 59] فَقَدْ تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا سَبِيلَ إلَى رَدّهَا إلَى غَيْرِ اللّهِ وَرَسُولِهِ الْبَتّةَ وَسَيَأْتِي أَنّنَا أَحَقّ بِالصّحَابَةِ وَأَسْعَدُ بِهِمْ فِيهَا فَنَقُولُ أَمّا مَنْعُكُمْ لِتَحْرِيمِ جَمْعِ الثّلَاثِ فَلَا رَيْبَ أَنّهَا مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ وَلَكِنّ الْأَدِلّةَ الدّالّةَ عَلَى التّحْرِيمِ حُجّةٌ عَلَيْكُمْ. أَمّا قَوْلُكُمْ إنّ الْقُرْآنَ دَلّ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ فَدَعْوَى غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بَلْ بَاطِلَةٌ وَغَايَةُ مَا تَمَسّكْتُمْ بِهِ إطْلَاقُ الْقُرْآنِ لِلَفْظِ الطّلَاقِ وَذَلِكَ لَا يَعُمّ جَائِزَهُ وَمُحَرّمَهُ كَمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ طَلَاقُ الْحَائِضِ وَطَلَاقُ الْمَوْطُوءَةِ فِي طُهْرِهَا وَمَا مَثَلُكُمْ فِي ذَلِكَ إلّا كَمَثَلِ مَنْ عَارَضَ السّنّةَ الصّحِيحَةَ فِي تَحْرِيمِ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ بِهَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ سَوَاءٌ وَمَعْلُومٌ أَنّ الْقُرْآنَ لَمْ يَدُلّ عَلَى جَوَازِ كُلّ طَلَاقٍ حَتّى تُحَمّلُوهُ مَا لَا يُطِيقُهُ وَإِنّمَا دَلّ عَلَى أَحْكَامِ الطّلَاقِ وَالْمُبَيّنُ عَنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ بَيّنَ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَلَا رَيْبَ أَنّا أَسْعَدُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ كَمَا بَيّنّا فِي صَدْرِ الِاسْتِدْلَالِ وَأَنّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَشْرَعْ قَطّ طَلَاقًا بَائِنًا بِغَيْرِ عِوَضٍ لِمَدْخُولٍ بِهَا إلّا أَنْ يَكُونَ آخِرَ الْعِدَدِ وَهَذَا كِتَابُ اللّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَغَايَةُ مَا تَمَسّكْتُمْ بِهِ أَلْفَاظٌ مُطْلَقَةٌ قَيّدَتْهَا السّنّةُ وَبَيّنَتْ شُرُوطَهَا وَأَحْكَامَهَا. صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَمَا أَصَحّهُ مِنْ حَدِيثٍ وَمَا أَبْعَدَهُ مِنْ اسْتِدْلَالِكُمْ عَلَى جَوَازِ الطّلَاقِ الثّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي نِكَاحٍ يُقْصَدُ بَقَاؤُهُ وَدَوَامُهُ ثُمّ الْمُسْتَدِلّ بِهَذَا إنْ كَانَ مِمّنْ يَقُولُ إنّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ عَقِيبَ لِعَانِ الزّوْجِ وَحْدَهُ كَمَا يَقُولُهُ الشّافِعِيّ أَوْ عَقِيبَ لِعَانِهِمَا وَإِنْ لَمْ يُفَرّقْ الْحَاكِمُ كَمَا يَقُولُهُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْهُ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ بَاطِلٌ لِأَنّ الطّلَاقَ الثّلَاثَ حِينَئِذٍ لَغْوٌ لَمْ يَفِدْ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِمّنْ يُوَقّفُ الْفُرْقَةَ عَلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ لَمْ يَصِحّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَيْضًا لِأَنّ هَذَا النّكَاحَ لَمْ يَبْقَ سَبِيلٌ إلَى بَقَائِهِ وَدَوَامِهِ بَلْ هُوَ وَاجِبُ الْإِزَالَةِ وَمُؤَبّدُ التّحْرِيمِ فَالطّلَاقُ الثّلَاثُ مُؤَكّدٌ لِمَقْصُودِ اللّعَانِ وَمُقَرّرٌ لَهُ فَإِنّ غَايَتَهُ أَنْ يُحَرّمَهَا عَلَيْهِ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَفِرْقَةُ اللّعَانِ تُحَرّمُهَا عَلَيْهِ عَلَى الْأَبَدِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نُفُوذِ الطّلَاقِ فِي نِكَاحٍ قَدْ صَارَ مُسْتَحِقّ التّحْرِيمِ عَلَى التّأْبِيدِ نُفُوذُهُ فِي نِكَاحٍ قَائِمٍ مَطْلُوبِ الْبَقَاءِ وَالدّوَامِ وَلِهَذَا لَوْ طَلّقَهَا فِي هَذَا الْحَالِ وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ نُفَسَاءُ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا لِأَنّ هَذَا النّكَاحَ مَطْلُوبُ الْإِزَالَةِ مُؤَبّدُ التّحْرِيمِ وَمِنْ الْعَجَبِ أَنّكُمْ مُتَمَسّكُونَ بِتَقْرِيرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى هَذَا الطّلَاقِ الْمَذْكُورِ وَلَا تَتَمَسّكُونَ بِإِنْكَارِهِ وَغَضَبِهِ لِلطّلَاقِ الثّلَاثِ مِنْ غَيْرِ الْمُلَاعِنِ وَتَسْمِيَتُهُ لَعِبًا بِكِتَابِ اللّهِ كَمَا تَقَدّمَ فَكَمْ بَيْنَ هَذَا الْإِقْرَارِ وَهَذَا الْإِنْكَارِ؟ وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللّهِ قَائِلُونَ بِالْأَمْرَيْنِ مُقِرّونَ لِمَا أَقَرّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُنْكِرُونَ لِمَا أَنْكَرَهُ. وَأَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ رَجُلًا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوّجَتْ فَسُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ تَحِلّ لِلْأَوّلِ؟ قَالَ لَا حَتّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ فَهَذَا لَا نُنَازِعُكُمْ فِيهِ نَعَمْ هُوَ حُجّةٌ عَلَى مَنْ اكْتَفَى بِمُجَرّدِ عَقْدِ الثّانِي وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنّهُ طَلّقَ الثّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ بَلْ الْحَدِيثُ حُجّةٌ لَنَا فَإِنّهُ لَا يُقَالُ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَقَالَ ثَلَاثًا إلّا مَنْ فَعَلَ وَقَالَ مَرّةً بَعْدَ يُقَالُ قَذَفَهُ ثَلَاثًا وَشَتَمَهُ ثَلَاثًا وَسَلّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا. قَالُوا: وَأَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَمِنْ الْعَجَبِ الْعُجَابِ فَإِنّكُمْ خَالَفْتُمُوهُ فِيمَا هُوَ صَرِيحٌ فِيهِ لَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا صَحِيحًا وَهُوَ سُقُوطُ النّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لِلْبَائِنِ مَعَ صِحّتِهِ وَصَرَاحَتِهِ وَعَدَمِ مَا يُعَارِضُهُ مُقَاوِمًا لَهُ وَتَمَسّكْتُمْ بِهِ فِيمَا هُوَ مُجْمَلٌ بَلْ بَيَانُهُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ مِمّا يُبْطِلُ تَعَلّقَكُمْ بِهِ فَإِنّ قَوْلَهُ طَلّقَهَا ثَلَاثًا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي جَمْعِهَا بَلْ كَمَا تَقَدّمَ كَيْفَ وَفِي الصّحِيحِ فِي خَبَرِهَا نَفْسِهِ مِنْ رِوَايَةِ الزّهْرِيّ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنّ زَوْجَهَا أَرْسَلَ إلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ لَهَا مِنْ طَلَاقِهَا. وَفِي لَفْظٍ فِي الصّحِيحِ: أَنّهُ طَلّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَهُوَ سَنَدٌ صَحِيحٌ مُتّصِلٌ مِثْلُ الشّمْسِ فَكَيْفَ سَاغَ لَكُمْ تَرْكُهُ إلَى التّمَسّكِ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ وَهُوَ أَيْضًا حُجّةٌ عَلَيْكُمْ كَمَا تَقَدّمَ؟. قَالُوا: وَأَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ الّذِي رَوَاهُ عَبْدُ الرّزّاقِ فَخَبَرٌ فِي غَايَةِ السّقُوطِ لِأَنّ فِي طَرِيقِهِ يَحْيَى بْنَ الْعَلَاءِ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْوَضَافِيّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ- ضَعِيفٌ عَنْ هَالِكٍ عَنْ مَجْهُولٍ ثُمّ الّذِي يَدُلّ عَلَى كَذِبِهِ وَبُطْلَانِهِ أَنّهُ لَمْ يُعْرَفْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْآثَارِ صَحِيحِهَا وَلَا سَقِيمِهَا وَلَا مُتّصَلِهَا وَلَا مُنْقَطِعِهَا أَنّ وَالِدَ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ فَكَيْفَ بِجَدّهِ فَهَذَا مُحَالٌ بِلَا شَكّ وَأَمّا حَدِيثُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ فَأَصْلُهُ صَحِيحٌ بِلَا شَكّ لَكِنّ هَذِهِ الزّيَادَةَ وَالْوَصْلَةَ الّتِي فِيهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ طَلّقْتُهَا ثَلَاثًا أَكَانَتْ تَحِلّ لِي؟ إنّمَا جَاءَتْ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ زُرَيْقٍ وَهُوَ الشّامِيّ وَبَعْضُهُمْ يَقْلِبُهُ فَيَقُولُ زُرَيْقُ بْنُ شُعَيْبٍ كَانَ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَوْ صَحّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجّةٌ لِأَنّ قَوْلَهُ لَوْ طَلّقْتهَا ثَلَاثًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَوْ سَلّمْت ثَلَاثًا أَوْ أَقْرَرْت ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَهُ مِمّا لَا يُعْقَلُ جَمْعُهُ. وَأَمّا حَدِيثُ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرٍ الّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَنّ رُكَانَةَ طَلّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتّةَ فَأَحْلَفَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَرَادَ إلّا وَاحِدَةً فَمِنْ الْعَجَبِ تَقْدِيمُ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرٍ الْمَجْهُولِ الّذِي لَا يُعْرَفُ حَالُهُ الْبَتّةَ وَلَا يُدْرَى مَنْ هُوَ وَلَا مَا هُوَ عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ طَاوُسٍ فِي قِصّةِ أَبِي الصّهْبَاءِ وَقَدْ شَهِدَ إمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مُحَمّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيّ بِأَنّ فِيهِ اضْطِرَابًا هَكَذَا قَالَ التّرْمِذِيّ فِي الْجَامِعِ وَذَكَرَ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنّهُ مُضْطَرِبٌ. فَتَارَةً يَقُولُ طَلّقَهَا ثَلَاثًا وَتَارَةً يَقُولُ وَاحِدَةً وَتَارَةً يَقُولُ الْبَتّةَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَطُرُقُهُ كُلّهَا ضَعِيفَةٌ وَضَعّفَهُ أَيْضًا الْبُخَارِيّ حَكَاهُ الْمُنْذِرِيّ عَنْهُ. ثُمّ كَيْفَ يُقَدّمُ هَذَا الْحَدِيثُ الْمُضْطَرِبُ الْمَجْهُولُ رِوَايَةً عَلَى حَدِيثِ عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ لِجَهَالَةِ بَعْضِ بَنِي أَبِي رَافِعٍ هَذَا وَأَوْلَادُهُ تَابِعِيّونَ وَإِنْ كَانَ عُبَيْدُ اللّهِ أَشْهَرَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِمْ مُتّهَمٌ بِالْكَذِبِ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمَنْ يَقْبَلُ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ أَوْ يَقُولُ رِوَايَةُ الْعَدْلِ عَنْهُ تَعْدِيلٌ لَهُ فَهَذَا حُجّةٌ عِنْدَهُ فَأَمّا أَنْ يُضَعّفَهُ وَيُقَدّمَ عَلَيْهِ رِوَايَةَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْجَهَالَةِ أَوْ أَشَدّ فَكَلّا فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ تَتَسَاقَطَ رِوَايَتَا هَذَيْنِ الْمَجْهُولَيْنِ وَيُعْدَلُ إلَى غَيْرِهِمَا وَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ نَظَرْنَا فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ فَوَجَدْنَاهُ صَحِيحَ الْإِسْنَادِ وَقَدْ زَالَتْ عِلّةُ تَدْلِيسِ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ بِقَوْلِهِ حَدّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ وَقَدْ احْتَجّ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ فِي مَوَاضِعَ وَقَدْ صَحّحَ هُوَ وَغَيْرُهُ بِهَذَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَدّ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرّبِيعِ بِالنّكَاحِ الْأَوّلِ وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا. وَأَمّا دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ فَلَمْ تَزَلْ الْأَئِمّةُ تَحْتَجّ بِهِ وَقَدْ احْتَجّوا بِهِ فِي حَدِيثِ الْعَرَايَا فِيمَا شَكّ فِيهِ وَلَمْ يَجْزِمْ بِهِ مِنْ تَقْدِيرِهَا بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَهَا مَعَ كَوْنِهَا عَلَى خِلَافِ الْأَحَادِيثِ الّتِي نَهَى فِيهَا عَنْ بَيْعِ الرّطَبِ بِالتّمْرِ فَمَا ذَنْبُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سِوَى رِوَايَةِ مَا لَا يَقُولُونَ بِهِ وَإِنْ قَدَحْتُمْ فِي عِكْرِمَةَ- وَلَعَلّكُمْ فَاعِلُونَ- جَاءَكُمْ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ مِنْ التّنَاقُضِ فِيمَا احْتَجَجْتُمْ بِهِ أَنْتُمْ وَأَئِمّةُ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَتِهِ وَارْتِضَاءِ الْبُخَارِيّ لِإِدْخَالِ حَدِيثِهِ فِي صَحِيحِهِ.
فَصْلٌ:
وَأَمّا تِلْكَ الْمَسَالِكُ الْوَعِرَةُ الّتِي سَلَكْتُمُوهَا فِي حَدِيثِ أَبِي الصّهْبَاءِ فَلَا يَصِحّ شَيْءٌ مِنْهَا.
أَمّا الْمَسْلَكُ الْأَوّلُ وَهُوَ انْفِرَادُ مُسْلِمٍ بِرِوَايَتِهِ وَإِعْرَاضُ الْبُخَارِيّ عَنْهُ فَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْك عَارُهَا وَمَا ضَرّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ انْفِرَادُ مُسْلِمٍ بِهِ شَيْئًا ثُمّ هَلْ تَقْبَلُونَ أَنْتُمْ أَوْ أَحَدٌ مِثْلَ هَذَا فِي كُلّ حَدِيثٍ يَنْفَرِدُ بِهِ مُسْلِمٌ عَنْ الْبُخَارِيّ وَهَلْ قَالَ الْبُخَارِيّ قَطّ إنّ كُلّ حَدِيثٍ لَمْ أُدْخِلْهُ فِي كِتَابِيّ فَهُوَ بَاطِلٌ أَوْ لَيْسَ بِحُجّةٍ أَوْ ضَعِيفٌ وَكَمْ قَدْ احْتَجّ الْبُخَارِيّ بِأَحَادِيثَ خَارِجَ الصّحِيحِ لَيْسَ لَهَا ذِكْرٌ فِي صَحِيحِهِ وَكَمْ صَحّحَ مِنْ حَدِيثٍ خَارِجٍ عَنْ صَحِيحِهِ فَأَمّا مُخَالَفَةُ سَائِرِ الرّوَايَاتِ لَهُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ فَلَا رَيْبَ أَنّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رِوَايَتَيْنِ صَحِيحَتَيْنِ بِلَا شَكّ إحْدَاهُمَا: تُوَافِقُ هَذَا الْحَدِيثَ وَالْأُخْرَى: تُخَالِفُهُ فَإِنْ أَسْقَطْنَا رِوَايَةً سَلِمَ الْحَدِيثُ عَلَى أَنّهُ بِحَمْدِ اللّهِ سَالِمٌ. وَلَوْ اتّفَقَتْ الرّوَايَاتُ عَنْهُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ فَلَهُ أُسْوَةُ أَمْثَالِهِ وَلَيْسَ بِأَوّلِ حَدِيثٍ خَالَفَهُ رَاوِيهِ فَنَسْأَلُكُمْ هَلْ الْأَخْذُ بِمَا رَوَاهُ الصّحَابِيّ عِنْدَكُمْ أَوْ بِمَا رَآهُ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ الْأَخْذُ بِرِوَايَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِكُمْ بَلْ جُمْهُورُ الْأُمّةِ عَلَى هَذَا كَفَيْتُمُونَا مَئُونَةَ الْجَوَابِ. وَإِنْ قُلْتُمْ الْأَخْذُ بِرَأْيِهِ أَرَيْنَاكُمْ مِنْ تُنَاقِضُكُمْ مَا لَا حِيلَةَ لَكُمْ فِي دَفْعِهِ وَلَا سِيّمَا عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ نَفْسِهِ فَإِنّهُ رَوَى حَدِيثَ بَرِيرَةَ وَتَخْيِيرَهَا وَلَمْ يَكُنْ بَيْعُهَا طَلَاقًا وَرَأَى خِلَافَهُ وَأَنّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا فَأَخَذْتُمْ- وَأَصَبْتُمْ- بِرِوَايَتِهِ وَتَرَكْتُمْ رَأْيَهُ فَهَلّا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَقُلْتُمْ الرّوَايَةُ مَعْصُومَةٌ وَقَوْلُ الصّحَابِيّ غَيْرُ مَعْصُومٍ وَمُخَالَفَتُهُ لِمَا رَوَاهُ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَاتٍ عَدِيدَةً مِنْ نِسْيَانٍ أَوْ تَأْوِيلٍ أَوْ اعْتِقَادٍ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ فِي ظَنّهِ أَوْ اعْتِقَادٍ أَنّهُ مَنْسُوخٌ أَوْ مَخْصُوصٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ فَكَيْفَ يَسُوغُ تَرْكُ رِوَايَتِهِ مَعَ قِيَامِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ؟ وَهَلْ هَذَا إلّا تَرْكُ مَعْلُومٍ لِمَظْنُونٍ بَلْ مَجْهُولٍ؟ قَالُوا: وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حَدِيثَ التّسْبِيعِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَأَفْتَى بِخِلَافِهِ فَأَخَذْتُمْ بِرِوَايَتِهِ وَتَرَكْتُمْ فَتْوَاهُ. وَلَوْ تَتَبّعْنَا مَا أَخَذْتُمْ فِيهِ بِرِوَايَةِ الصّحَابِيّ دُونَ فَتْوَاهُ لَطَالَ. قَالُوا: وَأَمّا دَعْوَاكُمْ نَسْخَ الْحَدِيثِ فَمَوْقُوفَةٌ عَلَى ثُبُوتِ مُعَارِضٍ مُقَاوِمٍ مُتَرَاخٍ فَأَيْنَ هَذَا؟ وَأَمّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ فِي نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الطّلَاقِ الثّلَاثِ فَلَوْ صَحّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجّةٌ فَإِنّهُ إنّمَا فِيهِ أَنّ الرّجُلَ كَانَ يُطَلّقُ امْرَأَتَهُ وَيُرَاجِعُهَا بِغَيْرِ عَدَدٍ فَنُسِخَ ذَلِكَ وَقُصِرَ عَلَى ثَلَاثٍ فِيهَا تَنْقَطِعُ الرّجْعَةُ فَأَيْنَ فِي ذَلِكَ الْإِلْزَامُ بِالثّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ ثُمّ كَيْفَ يَسْتَمِرّ الْمَنْسُوخُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ لَا تَعْلَمُ بِهِ الْأَمَةُ وَهُوَ مِنْ أَهَمّ الْأُمُورِ الْمُتَعَلّقَةِ بِحِلّ الْفُرُوجِ ثُمّ كَيْفَ يَقُولُ عُمَرُ إنّ النّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ وَهَلْ لِلْأَمَةِ أَنَاةٌ فِي الْمَنْسُوخِ بِوَجْهٍ مَا؟ ثُمّ كَيْفَ يُعَارَضُ الْحَدِيثُ الصّحِيحُ بِهَذَا الّذِي فِيهِ عَلِيّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنُ وَاقِدٍ وَضَعْفُهُ مَعْلُومٌ؟. وَأَمّا حَمْلُكُمْ الْحَدِيثَ عَلَى قَوْلِ الْمُطَلّقِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ وَمَقْصُودُهُ التّأْكِيدُ بِمَا بَعْدَ الْأَوّلِ فَسِيَاقُ الْحَدِيثِ مِنْ أَوّلِهِ إلَى آخِرِهِ يَرُدّهُ فَإِنّ هَذَا الّذِي أَوّلْتُمْ الْحَدِيثَ عَلَيْهِ لَا يَتَغَيّرُ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَى عَهْدِهِ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ وَهَلُمّ جَرّا إلَى آخِرِ الدّهْرِ وَمَنْ يَنْوِيهِ فِي قَصْدِ التّأْكِيدِ لَا يُفَرّقُ بَيْنَ بَرّ وَفَاجِرٍ وَصَادِقٍ وَكَاذِبٍ بَلْ يَرُدّهُ إلَى نِيّتِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَقْبَلُهُ فِي الْحُكْمِ لَا يَقْبَلُهُ مُطْلَقًا بَرّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا. وَأَيْضًا فَإِنّ قَوْلَهُ إنّ النّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا وَتَتَايَعُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَنّا أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِم إخْبَارٌ مِنْ عُمَرَ بِأَنّ النّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا مَا جَعَلَهُمْ اللّهُ فِي فُسْحَةٍ مِنْهُ وَشَرَعَهُ مُتَرَاخِيًا بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ رَحْمَةً بِهِمْ وَرِفْقًا وَأَنَاةً لَهُمْ لِئَلّا يَنْدَمَ مُطَلّقٌ فَيَذْهَبَ حَبِيبُهُ مِنْ يَدَيْهِ مِنْ أَوّلِ وَهْلَةٍ فَيَعِزّ عَلَيْهِ تَدَارُكُهُ فَجُعِلَ لَهُ أَنَاةً وَمُهْلَةً يَسْتَعْتِبُهُ فِيهَا وَيُرْضِيهِ وَيَزُولُ مَا أَحْدَثَهُ الْعَتَبُ الدّاعِي إلَى الْفِرَاقِ وَيُرَاجِعُ كُلّ مِنْهُمَا الّذِي عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ فَاسْتَعْجَلُوا فِيمَا جُعِلَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ وَمُهْلَةٌ وَأَوْقَعُوهُ بِفَمٍ وَاحِدٍ فَرَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ يَلْزَمُهُمْ مَا الْتَزَمُوهُ عُقُوبَةً لَهُمْ فَإِذَا عَلِمَ الْمُطَلّقُ أَنّ زَوْجَتَهُ وَسَكَنَهُ تَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ أَوّلِ مَرّةٍ بِجَمْعِهِ الثّلَاثَ كَفّ عَنْهَا وَرَجَعَ إلَى الطّلَاقِ الْمَشْرُوعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَكَانَ هَذَا مِنْ تَأْدِيبِ عُمَرَ لِرَعِيّتِهِ لَمّا أَكْثَرُوا مِنْ الطّلَاقِ الثّلَاثِ كَمَا سَيَأْتِي مَزِيدُ تَقْرِيرِهِ عِنْدَ الِاعْتِذَارِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي إلْزَامِهِ بِالثّلَاثِ وَأَمّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنّ مَعْنَاهُ كَانَ وُقُوعَ الطّلَاقِ الثّلَاثِ الْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاحِدَةً فَإِنّ حَقِيقَةَ هَذَا التّأْوِيلِ كَانَ النّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُطَلّقُونَ وَاحِدَةً وَعَلَى عَهْدِ عُمَرَ صَارُوا يُطَلّقُونَ ثَلَاثًا وَالتّأْوِيلُ إذَا وَصَلَ إلَى هَذَا الْحَدّ كَانَ مِنْ بَابِ الْإِلْغَازِ وَالتّحْرِيفِ لَا مِنْ بَابِ بَيَانِ الْمُرَادِ وَلَا يَصِحّ ذَلِكَ بِوَجْهٍ مَا فَإِنّ النّاسَ مَا زَالُوا يُطَلّقُونَ وَاحِدَةً وَثَلَاثًا وَقَدْ طَلّقَ رِجَالٌ نِسَاءَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثًا فَمِنْهُمْ مَنْ رَدّهَا إلَى وَاحِدَةٍ كَمَا فِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَغَضِبَ وَجَعَلَهُ مُتَلَاعِبًا بِكِتَابِ اللّهِ وَلَمْ يُعْرَفْ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ مَنْ أَقَرّهُ لِتَأْكِيدِ التّحْرِيمِ الّذِي أَوْجَبَهُ اللّعَانُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْزَمَهُ بِالثّلَاثِ لِكَوْنِ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الطّلَاقِ آخِرَ الثّلَاثِ فَلَا يَصِحّ أَنْ يُقَالَ إنّ النّاسَ مَا زَالُوا يُطَلّقُونَ وَاحِدَةً إلَى أَثْنَاءِ خِلَافَةِ عُمَرَ فَطَلّقُوا ثَلَاثًا وَلَا يَصِحّ أَنْ يُقَالَ إنّهُمْ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَنُمْضِيهِ عَلَيْهِمْ وَلَا يُلَائِمُ هَذَا الْكَلَامُ الْفَرْقَ بَيْنَ عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ عَهْدِهِ بِوَجْهٍ مَا فَإِنّهُ مَاضٍ مِنْكُمْ عَلَى عَهْدِهِ وَبَعْدَ عَهْدِهِ. ثُمّ إنّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ الصّحِيحَةِ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّهُ مَنْ طَلّقَ ثَلَاثًا جُعِلَتْ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. وَفِي لَفْظٍ أَمَا عَلِمْتَ أَنّ الرّجُلَ كَانَ إذَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بَلَى كَانَ الرّجُلُ إذَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ فَلَمّا رَأَى النّاسَ- يَعْنِي عُمَرَ- قَدْ تَتَايَعُوا فِيهَا قَالَ أَجِيزُوهُنّ عَلَيْهِم جَعَلَ الْأَدِلّةَ تَبَعًا لِلْمَذْهَبِ فَاعْتَقَدَ ثُمّ اسْتَدَلّ. وَأَمّا مَنْ جَعَلَ الْمَذْهَبَ تَبَعًا لِلدّلِيلِ وَاسْتَدَلّ ثُمّ اعْتَقَدَ لَمْ يُمْكِنْهُ هَذَا الْعَمَلُ. وَأَمّا قَوْلُ مَنْ قَالَ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ هُوَ الّذِي يَجْعَلُ ذَلِكَ وَلَا أَنّهُ عَلِمَ بِهِ وَأَقَرّهُ عَلَيْهِ فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ سُبْحَانَك هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ أَنْ يَسْتَمِرّ هَذَا الْجَعْلُ الْحَرَامُ الْمُتَضَمّنُ لِتَغْيِيرِ شَرْعِ اللّهِ وَدِينِهِ وَإِبَاحَةُ الْفَرْجِ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَتَحْرِيمُهُ عَلَى مَنْ هُوَ عَلَيْهِ حَلَالٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ خَيْرِ الْخَلْقِ وَهُمْ يَفْعَلُونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَهُ وَلَا يَعْلَمُهُ هُوَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَهُوَ يُقِرّهُمْ عَلَيْهِ فَهَبْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ وَكَانَ الصّحَابَةُ يَعْلَمُونَهُ وَيُبَدّلُونَ دِينَهُ وَشَرْعَهُ وَاللّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يُوحِيهِ إلَى رَسُولِهِ وَلَا يُعْلِمُهُ بِهِ ثُمّ يَتَوَفّى اللّهُ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَسْتَمِرّ هَذَا الضّلَالُ الْعَظِيمُ وَالْخَطَأُ الْمُبِينُ عِنْدَكُمْ مُدّةَ خِلَافَةِ الصّدّيقِ كُلّهَا يُعْمَلُ بِهِ وَلَا يُغَيّرُ إلَى أَنْ فَارَقَ الصّدّيقُ الدّنْيَا وَاسْتَمَرّ الْخَطَأُ وَالضّلَالُ الْمُرَكّبُ صَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ حَتّى رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ أَنْ يُلْزِمَ النّاسَ بِالصّوَابِ فَهَلْ فِي الْجَهْلِ بِالصّحَابَةِ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي عَهْدِ نَبِيّهِمْ وَخُلَفَائِهِ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا وَتَاللّهِ لَوْ كَانَ جَعْلُ الثّلَاثِ وَاحِدَةً خَطَأً مَحْضًا لَكَانَ أَسْهَلَ مِنْ هَذَا الْخَطَأِ الّذِي ارْتَكَبْتُمُوهُ وَالتّأْوِيلِ الّذِي تَأَوّلْتُمُوهُ وَلَوْ تَرَكْتُمْ الْمَسْأَلَةَ بِهَيْئَتِهَا لَكَانَ أَقْوَى لِشَأْنِهَا مِنْ هَذِهِ الْأَدِلّةِ وَالْأَجْوِبَةِ. قَالُوا: وَلَيْسَ التّحَاكُمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى مُقَلّدٍ مُتَعَصّبٍ وَلَا هَيّابٍ لِلْجُمْهُورِ وَلَا مُسْتَوْحِشٍ مِنْ التّفَرّدِ إذَا كَانَ الصّوَابُ فِي جَانِبِهِ وَإِنّمَا بِنَيْلِهِ ذِرَاعُهُ وَفَرّقَ بَيْنَ الشّبْهَةِ وَالدّلِيلِ وَتَلَقّى الْأَحْكَامَ مِنْ نَفْسِ مِشْكَاةِ الرّسُولِ وَعَرَفَ الْمَرَاتِبَ وَقَامَ فِيهَا بِالْوَاجِبِ وَبَاشَرَ قَلْبُهُ أَسْرَارَ الشّرِيعَةِ وَحِكَمَهَا الْبَاهِرَةَ وَمَا تَضَمّنَتْهُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْبَاطِنَةِ وَالظّاهِرَةِ وَخَاضَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَضَايِقِ لُجَجَهَا وَاسْتَوْفَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ حُجَجَهَا وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التّكْلَانُ. قَالُوا: وَأَمّا قَوْلُكُمْ إذَا اخْتَلَفَتْ عَلَيْنَا الْأَحَادِيثُ نَظَرْنَا فِيمَا عَلَيْهِ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ فَنَعَمْ وَاَللّهِ وَحَيّهَلَا بِيَرَكِ الْإِسْلَامِ وَعِصَابَةِ الْإِيمَانِ. فَلَا تَطَلّبْ لِي الْأَعْوَاضَ بَعْدَهُم ** فَإِنّ قَلْبِي لَا يَرْضَى بِغَيْرِهِمْ
وَلَكِنْ لَا يَلِيقُ بِكُمْ أَنْ تَدْعُونَا إلَى شَيْءٍ وَتَكُونُوا أَوّلَ نَافِرٍ عَنْهُ وَمُخَالِفٍ لَهُ فَقَدْ تُوُفّيَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ أَكْثَرِ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ عَيْنٍ كُلّهُمْ قَدْ رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ فَهَلْ صَحّ لَكُمْ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلّهِمْ أَوْ عُشْرِهِمْ أَوْ عُشْرِ عُشْرِهِمْ أَوْ عُشْرِ عُشْرِ عُشْرِهِمْ الْقَوْلُ بِلُزُومِ الثّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ؟ هَذَا وَلَوْ جَهَدْتُمْ كُلّ الْجَهْدِ لَمْ تُطِيقُوا نَقْلَهُ عَنْ عِشْرِينَ نَفْسًا مِنْهُمْ أَبَدًا مَعَ اخْتِلَافٍ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَدَ صَحّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ الْقَوْلَانِ وَصَحّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ الْقَوْلُ بِاللّزُومِ وَصَحّ عَنْهُ التّوَقّفُ وَلَوْ كَاثَرْنَاكُمْ بِالصّحَابَةِ الّذِينَ كَانَ الثّلَاثُ عَلَى عَهْدِهِمْ وَاحِدَةً لَكَانُوا أَضْعَافَ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ وَنَحْنُ نُكَاثِرُكُمْ بِكُلّ صَحَابِيّ مَاتَ إلَى صَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَيَكْفِينَا مُقَدّمُهُمْ وَخَيْرُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الصّحَابَةِ عَلَى عَهْدِهِ بَلْ لَوْ شِئْنَا لَقُلْنَا وَلَصَدَقْنَا: إنّ هَذَا كَانَ إجْمَاعًا قَدِيمًا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ عَلَى عَهْدِ الصّدّيقِ اثْنَانِ وَلَكِنْ لَا يَنْقَرِضُ عَصْرُ الْمُجْمِعِينَ حَتّى حَدَثَ الِاخْتِلَافُ فَلَمْ يَسْتَقِرّ الْإِجْمَاعُ الْأَوّلُ حَتّى صَارَ الصّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاسْتَمَرّ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأُمّةِ فِي ذَلِكَ إلَى الْيَوْمِ ثُمّ نَقُولُ لَمْ يُخَالِفْ عُمَرُ إجْمَاعَ مَنْ تَقَدّمَهُ بَلْ رَأَى إلْزَامَهُمْ وَتَتَايَعُوا فِيهِ وَلَا رَيْبَ أَنّ هَذَا سَائِغٌ لِلْأَئِمّةِ أَنْ يُلْزِمُوا النّاسَ بِمَا ضَيّقُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَقْبَلُوا فِيهِ رُخْصَةَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَتَسْهِيلَهُ بَلْ اخْتَارُوا الشّدّةَ وَالْعُسْرَ فَكَيْفَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَمَالِ نَظَرِهِ لِلْأُمّةِ وَتَأْدِيبِهِ لَهُمْ وَلَكِنّ الْعُقُوبَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ وَالتّمَكّنِ مِنْ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِ الْفِعْلِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ وَخَفَائِهِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ إنّ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّمَا هُوَ رَأْيٌ رَآهُ مَصْلَحَةً لِلْأُمّةِ يَكُفّهُمْ بَهْ عَنْ التّسَارُعِ إلَى إيقَاعِ الثّلَاثِ وَلِهَذَا قَالَ فَلَوْ أَنّا أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ فَأَجِيزُوهُنّ عَلَيْهِمْ أَفَلَا يُرَى أَنّ هَذَا رَأْيٌ مِنْهُ رَآهُ لِلْمَصْلَحَةِ لَا إخْبَارٌ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمّا عَلِمَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ تِلْكَ الْأَنَاةَ وَالرّخْصَةَ نِعْمَةٌ مِنْ اللّهِ عَلَى الْمُطَلّقِ وَرَحْمَةٌ بِهِ وَإِحْسَانٌ إلَيْهِ وَأَنّهُ قَابَلَهَا بِضِدّهَا وَلَمْ يَقْبَلْ رُخْصَةَ اللّهِ وَمَا جَعَلَهُ لَهُ مِنْ الْأَنَاةِ عَاقَبَهُ بِأَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَأَلْزَمَهُ مَا أَلْزَمَهُ مِنْ الشّدّةِ وَالِاسْتِعْجَالِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوَاعِدِ الشّرِيعَةِ بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِحِكْمَةِ اللّهِ فِي خَلْقِهِ قَدَرًا وَشَرْعًا فَإِنّ النّاسَ إذَا تَعَدّوْا حُدُودَهُ وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَهَا ضَيّقَ عَلَيْهِمْ مَا جَعَلَهُ لِمَنْ اتّقَاهُ مِنْ الْمَخْرَجِ وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَنْ قَالَ مِنْ الصّحَابَةِ لِلْمُطَلّقِ ثَلَاثًا: إنّك لَوْ اتّقَيْتَ اللّهَ لَجَعَلَ لَك مَخْرَجًا كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبّاسٍ. فَهَذَا نَظَرُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الصّحَابَةِ لَا أَنّهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ غَيّرَ أَحْكَامَ اللّهِ وَجَعَلَ حَلَالَهَا حَرَامًا فَهَذَا غَايَةُ التّوْفِيقِ بَيْنَ النّصُوصِ وَفِعْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ مَعَهُ وَأَنْتُمْ لَمْ يُمْكِنْكُمْ ذَلِكَ إلّا بِإِلْغَاءِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَهَذَا نِهَايَةُ أَقْدَامِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الضّنْكِ وَالْمُعْتَرَكِ الصّعْبِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.ذِكْرُ أَحْكَامِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الطّلَاقِ:
.ذِكْرُ حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي طَلَاقِ الْهَازِلِ وَزَائِلِ الْعَقْلِ وَالْمُكْرَهِ وَالتّطْلِيقِ فِي نَفْسِهِ:
فِي السّنَنِ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ثَلَاثٌ جِدّهُنّ جِدّ وَهَزْلُهُنّ جِدّ النّكَاحُ وَالطّلَاقُ وَالرّجْعَةُ. ابْنِ عَبّاسٍ: إنّ اللّهَ وَضَعَ عَنْ أُمّتِي الْخَطَأَ وَالنّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. وَفِيهَا: عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إغْلَاق. وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لِلْمُقِرّ بِالزّنَى: أَبِكَ جُنُونٌ؟. وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُسْتَنْكَهَ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحِهِ: عَنْ عَلِيّ أَنّهُ قَالَ لِعُمَرَ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ الْمَجْنُونِ حَتّى يُفِيقَ وَعَنْ الصّبِيّ حَتّى يُدْرِكَ وَعَنْ النّائِمِ حَتّى يَسْتَيْقِظَ. صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ اللّهَ تَجَاوَزَ لِأُمّتِي عَمّا حَدّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ.
.النّيّةُ وَالْقَصْدُ عَفْوٌ غَيْرُ لَازِمٍ إنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهَا اللّسَانُ:
فَتَضَمّنَتْ هَذِهِ السّنَنُ أَنّ مَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ اللّسَانُ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ يَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَفْوٌ غَيْرُ لَازِمٍ بِالنّيّةِ وَالْقَصْدِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: التّوَقّفُ فِيهَا قَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ سُئِلَ ابْنُ سِيرِينَ عَمّنْ طَلّقَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمَ اللّهُ مَا فِي نَفْسِك؟ قَالَ بَلَى قَالَ فَلَا أَقُولُ فِيهَا شَيْئًا.
وَالثّانِي: وُقُوعُهُ إذَا جَزَمَ عَلَيْهِ وَهَذَا رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ وَرُوِيَ عَنْ الزّهْرِيّ وَحُجّةُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا الْأَعْمَالُ بِالنّيّاتِ وَأَنّ مَنْ كَفَرَ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ كَفَرَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ} [الْبَقَرَةُ 248] وَأَنّ الْمُصِرّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَاسِقٌ مُؤَاخَذٌ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ فِي اللّهِ وَعَلَى التّوَكّلِ وَالرّضَى وَالْعَزْمِ عَلَى الطّاعَةِ وَيُعَاقَبُ عَلَى الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْعُجْبِ وَالشّكّ وَالرّيَاءِ وَظَنّ السّوءِ بِالْأَبْرِيَاءِ. وَلَا حُجّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا عَلَى وُقُوعِ الطّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِمُجَرّدِ النّيّةِ مِنْ غَيْرِ تَلَفّظٍ أَمّا حَدِيثُ الْأَعْمَالِ بِالنّيّاتِ فَهُوَ حُجّةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنّهُ أَخْبَرَ فِيهِ أَنّ الْعَمَلَ مَعَ النّيّةِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ لَا النّيّةُ وَحْدَهَا وَأَمّا مَنْ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ بِقَلْبِهِ أَوْ شَكّ فَهُوَ كَافِرٌ لِزَوَالِ الْإِيمَانِ الّذِي هُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ مَعَ الْإِقْرَارِ فَإِذَا زَالَ الْعَقْدُ الْجَازِمُ كَانَ نَفْسُ زَوَالِهِ كُفْرًا فَإِنّ الْإِيمَانَ أَمْرٌ وُجُودِيّ ثَابِتٌ قَائِمٌ بِالْقَلْبِ فَمَا لَمْ يَقُمْ بِالْقَلْبِ حَصَلَ ضِدّهُ وَهُوَ الْكُفْرُ وَهَذَا كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ إذَا فَقَدَ الْعِلْمُ حَصَلَ الْجَهْلُ وَكَذَلِكَ كُلّ نَقِيضَيْنِ زَالَ أَحَدُهُمَا خَلّفَهُ الْآخَرُ. وَأَمّا الْآيَةُ فَلَيْسَ فِيهَا أَنّ الْمُحَاسَبَةَ بِمَا يُخْفِيهِ الْعَبْدُ إلْزَامُهُ بِأَحْكَامِهِ بِالشّرْعِ وَإِنّمَا فِيهَا مُحَاسَبَتُهُ بِمَا يُبْدِيهِ أَوْ يُخْفِيهِ ثُمّ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ أَوْ مُعَذّبٌ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ وُقُوعِ الطّلَاقِ بِالنّيّةِ. وَأَمّا أَنّ الْمُصِرّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَاسِقٌ مُؤَاخَذٌ فَهَذَا إنّمَا هُوَ فِيمَنْ عَمِلَ الْمَعْصِيَةَ ثُمّ أَصَرّ عَلَيْهَا فَهُنَا عَمَلٌ اتّصَلَ بِهِ الْعَزْمُ عَلَى مُعَاوَدَتِهِ فَهَذَا هُوَ الْمُصِرّ وَأَمّا مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَعْمَلْهَا فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إمّا أَنْ لَا تُكْتَبَ عَلَيْهِ وَإِمّا أَنْ تُكْتَبَ لَهُ حَسَنَةً إذَا تَرَكَهَا لِلّهِ عَزّ وَجَلّ. وَإِمّا الثّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ فَحَقّ وَالْقُرْآنُ وَالسّنّةُ مَمْلُوءَانِ بِهِ وَلَكِنّ وُقُوعَ الطّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالنّيّةِ مِنْ غَيْرِ تَلَفّظٍ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ الثّوَابِ وَالْعِقَابِ وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَإِنّ مَا يُعَاقِبُ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ هُوَ مَعَاصٍ قَلْبِيّةٌ يَسْتَحِقّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهَا كَمَا يَسْتَحِقّهُ عَلَى الْمَعَاصِي الْبَدَنِيّةِ إذْ هِيَ مُنَافِيَةٌ لِعُبُودِيّةِ الْقَلْبِ فَإِنّ الْكِبَرَ وَالْعُجْبَ وَالرّيَاءَ وَظَنّ السّوْءِ مُحَرّمَاتٌ عَلَى الْقَلْبِ وَهِيَ أُمُورٌ اخْتِيَارِيّةٌ يُمْكِنُ اجْتِنَابُهَا فَيَسْتَحِقّ الْعُقُوبَةَ عَلَى فِعْلِهَا وَهِيَ أَسْمَاءٌ لِمَعَانٍ مُسَمّيَاتِهَا قَائِمَةٌ بِالْقَلْبِ. وَأَمّا الْعَتَاقُ وَالطّلَاقُ فَاسْمَانِ لِمُسَمّيَيْنِ قَائِمَيْنِ بِاللّسَانِ أَوْ مَا نَابَ عَنْهُ مِنْ كِتَابَةٍ وَلَيْسَا اسْمَيْنِ لِمَا فِي الْقَلْبِ مُجَرّدًا عَنْ النّطْقِ.
.كَلَامُ الْهَازِلِ بِالطّلَاقِ وَالنّكَاحِ وَالرّجْعَةِ مُعْتَبَرٌ:
وَتَضَمّنَتْ أَنّ الْمُكَلّفَ إذَا هَزَلَ بِالطّلَاقِ أَوْ النّكَاحِ أَوْ الرّجْعَةِ لَزِمَهُ مَا هَزَلَ بِهِ فَدَلّ ذَلِكَ عَلَى أَنّ كَلَامَ الْهَازِلِ مُعْتَبَرٌ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ كَلَامُ النّائِمِ وَالنّاسِي وَزَائِلِ الْعَقْلِ وَالْمُكْرَهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلّفْظِ غَيْرُ مُرِيدٍ لِحُكْمِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِ فَإِنّمَا إلَى الْمُكَلّفَ الْأَسْبَابِ وَأَمّا تَرَتّبُ مُسَبّبَاتِهَا وَأَحْكَامِهَا فَهُوَ إلَى الشّارِعِ قَصَدَهُ الْمُكَلّفُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ وَالْعِبْرَةُ بِقَصْدِهِ السّبَبَ اخْتِيَارًا فِي حَالِ عَقْلِهِ وَتَكْلِيفِهِ فَإِذَا قَصَدَهُ رَتّبَ الشّارِعُ عَلَيْهِ حُكْمَهُ جَدّ بِهِ أَوْ هَزَلَ وَهَذَا بِخِلَافِ النّائِمِ وَالْمُبَرْسَمِ وَالْمَجْنُونِ وَالسّكْرَانِ وَزَائِلِ الْعَقْلِ فَإِنّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَصْدٌ صَحِيحٌ وَلَيْسُوا مُكَلّفِينَ فَأَلْفَاظُهُمْ لَغْوٌ بِمَنْزِلَةِ أَلْفَاظِ الطّفْلِ الّذِي لَا يَعْقِلُ مَعْنَاهَا وَلَا يَقْصِدُهُ. وَسِرّ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ قَصَدَ اللّفْظَ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ وَلَمْ يُرِدْ حُكْمَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَقْصِدْ اللّفْظَ وَلَمْ يَعْلَمْ مَعْنَاهُ فَالْمَرَاتِبُ الّتِي اعْتَبَرَهَا الشّارِعُ أَرْبَعَةٌ إحْدَاهَا: أَنْ لَا يَقْصِدَ الْحُكْمَ وَلَا يَتَلَفّظَ بِهِ.
الثّانِيةُ. أَنْ لَا يَقْصِدَ اللّفْظَ وَلَا حُكْمَهُ.
الثّالِثَةُ أَنْ يَقْصِدَ اللّفْظَ دُونَ حُكْمِهِ.
.مَا يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ وَمَا لَا يُبَاحُ:
الرّابِعَةُ أَنْ يَقْصِدَ اللّفْظَ وَالْحُكْمَ فَالْأَوّلِيّانِ لَغْوٌ وَالْآخِرَتَانِ مُعْتَبِرَتَانِ. هَذَا الّذِي اُسْتُفِيدَ مِنْ مَجْمُوعِ نُصُوصِهِ وَأَحْكَامِهِ وَعَلَى هَذَا فَكَلَامُ الْمُكْرَهِ كُلّهُ لَغْوٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ وَقَدْ دَلّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى التّكَلّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَا يَكْفُرُ وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ لَا يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا وَدَلّتْ السّنّةُ عَلَى أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ تَجَاوَزَ عَنْ الْمُكْرَهِ فَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَهَذَا يُرَادُ بِهِ كَلَامُهُ قَطْعًا وَأَمّا أَفْعَالُهُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ فَمَا أُبِيحَ مِنْهَا بِالْإِكْرَاهِ فَهُوَ مُتَجَاوِزٌ عَنْهُ كَالْأَكْلِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَالْعَمَلِ فِي الصّلَاةِ وَلُبْسِ الْمَخِيطِ فِي الْإِحْرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمَا لَا يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ فَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِهِ كَقَتْلِ الْمَعْصُومِ وَإِتْلَافِ مَالِهِ وَمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ حَدّهُ بِهِ وَمَنْ أَبَاحَهُ بِالْإِكْرَاهِ لَمْ يُحِدّهُ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
.عَدَمُ وُقُوعِ الطّلَاقِ بِلَفْظٍ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الطّلَاقَ:
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فِي الْإِكْرَاهِ أَنّ الْأَفْعَالَ إذَا وَقَعَتْ لَمْ تَرْتَفِعْ مَفْسَدَتُهَا بَلْ مَفْسَدَتُهَا مَعَهَا بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ فَإِنّهَا يُمْكِنُ إلْغَاؤُهَا. وَجَعْلُهَا بِمَنْزِلَةِ أَقْوَالِ النّائِمِ وَالْمَجْنُونِ فَمَفْسَدَةُ الْفِعْلِ الّذِي لَا يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ ثَابِتَةٌ بِخِلَافِ مَفْسَدَةِ الْقَوْلِ فَإِنّهَا إنّمَا تُثْبِتُ إذَا كَانَ قَائِلُهُ عَالِمًا بِهِ مُخْتَارًا لَهُ. وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا: سَمّنِي فَسَمّاهَا الظّبْيَةُ فَقَالَتْ مَا قُلْت شَيْئًا قَالَ فَهَاتِ مَا أُسَمّيك بِهِ قَالَتْ سَمّنِي خَلِيّةً طَالِقًا قَالَ أَنْتِ خَلِيّةٌ طَالِقٌ فَأَتَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فَقَالَتْ إنّ زَوْجِي طَلّقَنِي فَجَاءَ زَوْجُهَا فَقَصّ عَلَيْهِ الْقِصّةَ فَأَوْجَعَ عُمَرُ رَأْسَهَا وَقَالَ لِزَوْجِهَا: خُذْ بِيَدِهَا وَأَوْجِعْ رَأْسَهَا فَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ لَمّا لَمْ يَقْصِدْ الزّوْجُ اللّفْظَ الّذِي يَقَعُ بِهِ الطّلَاقُ بَلْ قَصَدَ لَفْظًا لَا يُرِيدُ بِهِ الطّلَاقَ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ أَوْ غُلَامِهِ إنّهَا حُرّةٌ وَأَرَادَ أَنّهَا لَيْسَتْ بِفَاجِرَةٍ أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ مُسَرّحَةٌ أَوْ سَرّحْتُك وَمُرَادُهُ تَسْرِيحُ الشّعْرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يَقَعُ عِتْقُهُ وَلَا طَلَاقُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّهِ تَعَالَى وَإِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ أَوْ تَصَادَقَا فِي الْحُكْمِ لَمْ يَقَعْ بِهِ.
.الْحَلِفُ بِالطّلَاقِ:
فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا مِنْ أَيّ الْأَقْسَامِ؟ فَإِنّكُمْ جَعَلْتُمْ الْمَرَاتِبَ أَرْبَعَةً وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا لَيْسَ بِمُكْرَهٍ وَلَا زَائِلِ الْعَقْلِ وَلَا هَازِلٍ وَلَا قَاصِدٍ لِحُكْمِ اللّفْظِ؟ قِيلَ هَذَا مُتَكَلّمٌ بِاللّفْظِ مُرِيدٌ بِهِ أَحَدَ مَعْنَيَيْهِ فَلَزِمَ حُكْمُ مَا أَرَادَهُ بِلَفْظِهِ دُونَ مَا لَمْ يُرِدْهُ فَلَا يَلْزَمُ بِمَا لَمْ يُرِدْهُ بِاللّفْظِ إذَا كَانَ صَالِحًا لَمّا أَرَادَهُ وَقَدْ اسْتَحْلَفَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُكَانَةَ لَمّا طَلّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتّةَ فَقَالَ مَا أَرَدْتَ؟ قَالَ وَاحِدَةً قَالَ آللّهِ قَالَ آللّهِ قَالَ هُوَ مَا أَرَدْتَ فَقَبِلَ مِنْهُ نِيّتَهُ فِي اللّفْظِ الْمُحْتَمَلِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ الْبَتّةَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ ثُمّ بَدَا لَهُ فَتَرَكَ الْيَمِينَ فَلَيْسَتْ طَالِقًا لِأَنّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُطَلّقَهَا وَبِهَذَا أَفْتَى اللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ حَتّى إنّ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا ثَلَاثُ صُوَرٍ إحْدَاهَا: أَنْ يَرْجِعَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَمْ يَكُنْ التّنْجِيزُ مُرَادَهُ فَهَذِهِ لَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَا يَكُونُ حَالِفًا.
الثّانِيةُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ الْيَمِينَ لَا التّنْجِيزَ فَيَقُولُ أَنْتِ طَالِقٌ وَمَقْصُودُهُ إنْ كَلّمْت زَيْدًا.
الثّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ الْيَمِينَ مِنْ أَوّلِ كَلَامِهِ ثُمّ يَرْجِعُ عَنْ الْيَمِينِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ وَيَجْعَلُ الطّلَاقَ مُنَجّزًا فَهَذَا لَا يَقَعُ بِهِ لِأَنّهُ لَمْ يَنْوِ بِهِ الْإِيقَاعَ وَإِنّمَا نَوَى بِهِ التّعْلِيقَ فَكَانَ قَاصِرًا عَنْ وُقُوعِ الْمُنَجّزِ فَإِذَا نَوَى التّنْجِيزَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَى فِي التّنْجِيزِ بِغَيْرِ النّيّةِ الْمُجَرّدَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [الْبَقَرَةُ 225].
.اللّغْوُ فِي الْيَمِينِ:
وَاللّغْوُ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الشّيْءِ يَظُنّهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَيَتَبَيّنُ بِخِلَافِهِ.
وَالثّانِي: أَنْ تَجْرِيَ الْيَمِينُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِلْحَلِفِ كَلّا وَاَللّهِ وَبَلَى وَاَللّهِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ وَكِلَاهُمَا رَفَعَ اللّهُ الْمُؤَاخَذَةَ بِهِ لِعَدَمِ وَحَقِيقَتِهَا وَهَذَا تَشْرِيعٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ أَلّا يُرَتّبُوا الْأَحْكَامَ عَلَى الْأَلْفَاظِ الّتِي لَمْ يَقْصِدْ الْمُتَكَلّمُ بِهَا حَقَائِقَهَا وَمَعَانِيهَا وَهَذَا غَيْرُ الْهَازِلِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا.
.لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَإِقْرَارُهُ:
وَقَدْ أَفْتَى الصّحَابَةُ بِعَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَإِقْرَارِهِ فَصَحّ عَنْ عُمَرَ أَنّهُ قَالَ لَيْسَ الرّجُلُ بِأَمِينٍ عَلَى نَفْسِهِ إذَا أَوْجَعَتْهُ أَوْ ضَرَبَتْهُ أَوْ أَوْثَقَتْهُ وَصَحّ عَنْهُ أَنّ رَجُلًا تَدَلّى بِحَبْلٍ لِيَشْتَارَ عَسَلًا فَأَتَتْ امْرَأَتُهُ فَقَالَتْ لَأُقَطّعَن الْحَبْلَ أَوْ لَتُطَلّقَنّي فَنَاشَدَهَا اللّهَ فَأَبَتْ فَطَلّقَهَا فَأَتَى عُمَرُ فَذُكِرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ إلَى امْرَأَتِك فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِطَلَاقٍ. وَكَانَ عَلِيّ لَا يُجِيزُ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ وَقَالَ ثَابِتٌ الْأَعْرَجُ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ الزّبَيْرِ عَنْ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ فَقَالَا جَمِيعًا: لَيْسَ بِشَيْءٍ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِمَا رَوَاهُ الْغَازِي بْنُ جَبَلَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ الْأَصَمّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ رَجُلًا جَلَسَتْ امْرَأَتُهُ عَلَى صَدْرِهِ وَجَعَلَتْ السّكّينَ عَلَى حَلْقِهِ وَقَالَتْ لَهُ طَلّقْنِي أَوْ لَأَذْبَحَنك فَنَاشَدَهَا فَأَبَتْ فَطَلّقَهَا ثَلَاثًا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَا قَيْلُولَةَ فِي الطّلَاقِ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ. وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ كُلّ الطّلَاقِ جَائِزٌ إلّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدّثَنَا فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ حَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ شَرَاحِيلَ الْمَعَافِرِيّ أَنّ امْرَأَةً اسْتَلّتْ سَيْفًا فَوَضَعَتْهُ عَلَى بَطْنِ زَوْجِهَا وَقَالَتْ وَاَللّهِ لَأُنْفِذَنّكَ أَوْ لِتُطَلّقَنّي فَطَلّقَهَا ثَلَاثًا فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ فَأَمْضَى طَلَاقَهَا. وَقَالَ عَلِيّ كُلّ الطّلَاقِ جَائِزٌ إلّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ قِيلَ أَمّا خَبَرُ الْغَازِي بْنِ جَبَلَةَ فَفِيهِ ثَلَاثُ عِلَلٍ. إحْدَاهَا: ضَعْفُ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو وَالثّانِيَةُ لِينُ الْغَازِي بْنِ جَبَلَةَ وَالثّالِثَةُ تَدْلِيسُ بَقِيّةِ الرّاوِي عَنْهُ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَحْتَجّ بِهِ. قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ: وَهَذَا خَبَرٌ فِي غَايَةِ السّقُوطِ. وَأَمّا حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ: كُلّ الطّلَاقِ جَائِز فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ عَجْلَانَ وَضَعْفُهُ مَشْهُورٌ وَقَدْ رُمِيَ بِالْكَذِبِ. قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ: وَهَذَا الْخَبَرُ شَرّ مِنْ الْأَوّلِ. وَأَمّا أَثَرُ عُمَرَ فَالصّحِيحُ عَنْهُ خِلَافُهُ كَمَا تَقَدّمَ وَلَا يُعْلَمُ مُعَاصَرَةُ الْمَعَافِرِيّ لِعُمَرَ وَفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ فِيهِ ضَعْفٌ. وَأَمّا أَثَرُ عَلِيّ فَاَلّذِي رَوَاهُ عَنْهُ النّاسُ أَنّهُ كَانَ لَا يُجِيزُ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ وَرَوَى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَانَ لَا يُجِيزُ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ. فَإِنْ صَحّ عَنْهُ مَا ذَكَرْتُمْ فَهُوَ عَامّ مَخْصُوصٌ بِهَذَا.
.فصل طَلَاقُ السّكْرَانِ:
وَأَمّا طَلَاقُ السّكْرَانِ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النّسَاءُ 43] فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ قَوْلَ السّكْرَانِ غَيْرَ مُعْتَبِرٍ لِأَنّهُ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ أَمَرَ بِالْمُقِرّ بِالزّنَى أَنْ يُسْتَنْكَهَ لِيُعْتَبَرَ قَوْلُهُ الّذِي أَقَرّ بِهِ أَوْ يُلْغَى. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ فِي قِصّةِ حَمْزَةَ لَمّا عَقَرَ بَعِيرَيْ عَلِيّ فَجَاءَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ يَلُومُهُ فَصَعّدَ فِيهِ النّظَرَ وَصَوّبَهُ وَهُوَ سَكْرَانُ ثُمّ قَالَ هَلْ عَبِيدٌ لِأَبِي فَنَكَصَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى عَقِبَيْهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَوْ قَالَهُ غَيْرُ سَكْرَانَ لَكَانَ رِدّةً وَكُفْرًا وَلَمْ يُؤَاخَذْ بِذَلِكَ حَمْزَةٌ. وَصَحّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا سَكْرَانَ طَلَاقٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِيهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ طَلَاقُ السّكْرَانِ لَا يَجُوزُ وَقَالَ ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ طَلَاقُ السّكْرَانِ لَا يَجُوزُ وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمّدٍ: لَا يَجُوزُ طَلَاقُهُ. وَصَحّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنّهُ أُتِيَ بِسَكْرَانَ طَلّقَ فَاسْتَحْلَفَهُ بِاَللّهِ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ لَقَدْ طَلّقَهَا وَهُوَ لَا يَعْقِلُ فَحَلَفَ فَرَدّ إلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَضَرَبَهُ الْحَدّ. وَهُوَ مَذْهَبُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيّ وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَرَبِيعَةَ وَاللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالشّافِعِيّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ الشّافِعِيّةِ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْهُ وَهِيَ الّتِي اسْتَقَرّ عَلَيْهَا مَذْهَبُهُ وَصَرّحَ بِرُجُوعِهِ إلَيْهَا فَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ الّذِي لَا يَأْمُرُ بِالطّلَاقِ إنّمَا أَتَى خَصْلَةً وَاحِدَةً وَاَلّذِي يَأْمُرُ بِالطّلَاقِ فَقَدْ أَتَى خَصْلَتَيْنِ حَرّمَهَا عَلَيْهِ وَأَحَلّهَا لِغَيْرِهِ فَهَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا وَأَنَا أَتّقِي جَمِيعًا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيّ: قَدْ كُنْتُ أَقُولُ إنّ طَلَاقَ السّكْرَانِ يَجُوزُ حَتّى تَبَيّنْته فَغَلَبَ عَلَيّ أَنّهُ لَا يَجُوزُ طَلَاقُهُ لِأَنّهُ لَوْ أَقَرّ لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَوْ بَاعَ لَمْ قَالَ وَأَلْزَمَهُ الْجِنَايَةَ وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَبِهَذَا أَقُولُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الظّاهِرِ كُلّهِمْ وَاخْتَارَهُ مِنْ الْحَنَفِيّةِ أَبُو جَعْفَرٍ الطّحَاوِيّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ.
.حُجَجُ مَنْ أَوْقَعَ طَلَاقَ السّكْرَانِ:
وَاَلّذِينَ أَوْقَعُوهُ لَهُمْ سَبْعَةُ مَآخِذَ أَحَدُهَا: أَنّهُ مُكَلّفٌ وَلِهَذَا يُؤَاخَذُ بِجِنَايَاتِهِ.
وَالثّانِي: أَنّ إيقَاعَ الطّلَاقِ عُقُوبَةٌ لَهُ.
وَالثّالِثُ أَنّ تَرَتّبَ الطّلَاقِ عَلَى التّطْلِيقِ مِنْ بَابِ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِأَسْبَابِهَا فَلَا يُؤَثّرُ فِيهِ السّكْرُ.
وَالرّابِعُ أَنّ الصّحَابَةَ أَقَامُوهُ مَقَامَ الصّاحِي فِي كَلَامِهِ فَإِنّهُمْ قَالُوا: إذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَحَدّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ.
وَالْخَامِسُ حَدِيثُ لَا قَيْلُولَةَ فِي الطّلَاقِ وَقَدْ تَقَدّمَ.
السّادِسُ حَدِيثُ كُلّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَقَدْ تَقَدّمَ.
وَالسّابِعُ أَنّ الصّحَابَةَ أَوْقَعُوا عَلَيْهِ الطّلَاقَ فَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةَ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدّثْنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ الزّبَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي لَبِيدٍ أَنّ رَجُلًا طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ سَكْرَانُ فَرُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ وَشَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَفَرّقَ عُمَرُ بَيْنَهُمَا. قَالَ وَحَدّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ نَافِعِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّ مُعَاوِيَةَ أَجَازَ طَلَاقَ السّكْرَانِ. هَذَا جَمِيعُ مَا احْتَجّوا بِهِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ حُجّةٌ أَصْلًا.
.الرّدّ عَلَى حُجَجِ مَنْ أَوْقَعَ طَلَاقَ السّكْرَانِ:
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مُكَلّفًا لَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ طَلَاقُهُ إذَا كَانَ مُكْرَهًا عَلَى شُرْبِهَا أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِأَنّهَا خَمْرٌ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ. وَأَمّا خِطَابُهُ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الّذِي يَعْقِلُ الْخِطَابَ أَوْ عَلَى الصّاحِي وَأَنّهُ نُهِيَ عَنْ السّكْرِ إذَا أَرَادَ الصّلَاةَ وَأَمّا مَنْ لَا يَعْقِلُ فَلَا يُؤْمَرُ وَلَا يَنْهَى. وَأَمّا إلْزَامُهُ بِجِنَايَاتِهِ فَمَحِلّ نِزَاعٍ لَا مَحِلّ وِفَاقٍ فَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتّيّ: لَا يَلْزَمُهُ عَقْدٌ وَلَا بَيْعٌ وَلَا حَدّ إلّا حَدّ الْخَمْرِ فَقَطْ وَهَذَا إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَنّهُ كَالْمَجْنُونِ فِي كُلّ فِعْلٍ يُعْتَبَرُ لَهُ الْعَقْلُ. وَاَلّذِينَ اعْتَبَرُوا أَفْعَالَهُ دُونَ أَقْوَالِهِ فَرّقُوا بِفَرْقَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنّ إسْقَاطَ أَفْعَالِهِ ذَرِيعَةٌ إلَى تَعْطِيلِ الْقِصَاصِ إذْ كُلّ مَنْ أَرَادَ قَتْلَ غَيْرِهِ أَوْ الزّنَى أَوْ السّرِقَةَ أَوْ الْحِرَابَ سَكِرَ وَفَعَلَ ذَلِكَ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدّ إذَا أَتَى جُرْمًا وَاحِدًا فَإِذَا تَضَاعَفَ جُرْمُهُ بِالسّكْرِ كَيْفَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدّ؟ هَذَا مِمّا تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ الشّرِيعَةِ وَأُصُولُهَا وَقَالَ أَحْمَدُ مُنْكِرًا عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَبَعْضُ مَنْ يَرَى طَلَاقَ السّكْرَانِ لَيْسَ بِجَائِزٍ يَزْعُمُ أَنّ السّكْرَانَ لَوْ جَنَى جِنَايَةً أَوْ أَتَى حَدّا أَوْ تَرَكَ الصّيَامَ أَوْ الصّلَاةَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَرْسَمِ وَالْمَجْنُونِ هَذَا كَلَامُ سُوءٍ. وَالْفَرْقُ الثّانِي: أَنّ إلْغَاءَ أَقْوَالِهِ لَا يَتَضَمّنُ مَفْسَدَةً لِأَنّ الْقَوْلَ الْمُجَرّدَ مِنْ غَيْرِ الْعَاقِلِ لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنّ مَفَاسِدَهَا لَا يُمْكِنُ إلْغَاؤُهَا إذَا وَقَعَتْ فَإِلْغَاءُ أَفْعَالِهِ ضَرَرٌ مَحْضٌ وَفَسَادٌ مُنْتَشِرٌ بِخِلَافِ أَقْوَالِهِ فَإِنْ صَحّ هَذَانِ الْفَرْقَانِ بَطَلَ الْإِلْحَاقُ وَإِنْ لَمْ يَصِحّا كَانَتْ التّسْوِيَةُ بَيْنَ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ مُتَعَيّنَةً. وَأَمّا الْمَأْخَذُ الثّانِي- وَهُوَ أَنّ إيقَاعَ الطّلَاقِ بِهِ عُقُوبَةٌ لَهُ- فَفِي غَايَةِ الضّعْفِ فَإِنّ الْحَدّ يَكْفِيهِ عُقُوبَةً وَقَدْ حَصَلَ رِضَى اللّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ وَأَمّا الْمَأْخَذُ الثّالِثُ أَنّ إيقَاعَ الطّلَاقِ بِهِ مِنْ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْبَابِ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالسّقُوطِ فَإِنّ هَذَا يُوجِبُ إيقَاعَ الطّلَاقِ مِمّنْ سَكِرَ مُكْرَهًا أَوْ جَاهِلًا بِأَنّهَا خَمْرٌ وَبِالْمَجْنُونِ وَالْمُبَرْسَمِ بَلْ وَبِالنّائِمِ ثُمّ يُقَالُ وَهَلْ ثَبَتَ لَكُمْ أَنّ طَلَاقَ السّكْرَانِ سَبَبٌ حَتّى يُرْبَطَ الْحُكْمُ بِهِ وَهَلْ النّزَاعُ إلّا فِي ذَلِكَ؟. وَأَمّا الْمَأْخَذُ الرّابِعُ وَهُوَ أَنّ الصّحَابَةَ جَعَلُوهُ كَالصّاحِي فِي قَوْلِهِمْ إذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى. فَهُوَ خَبَرٌ لَا يَصِحّ الْبَتّةَ. قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ وَهُوَ خَبَرٌ مَكْذُوبٌ قَدْ نَزّهَ اللّهُ عَلِيّا وَعَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ مِنْهُ وَفِيهِ مِنْ الْمُنَاقَضَةِ مَا يَدُلّ عَلَى بُطْلَانِهِ فَإِنّ فِيهِ إيجَابَ الْحَدّ عَلَى مَنْ هَذَى وَالْهَاذِي لَا حَدّ عَلَيْهِ. وَأَمّا الْمَأْخَذُ الْخَامِسُ وَهُوَ حَدِيثُ لَا قَيْلُولَةَ فِي الطّلَاقِ فَخَبَرٌ لَا يَصِحّ وَلَوْ صَحّ لَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى طَلَاقِ مُكَلّفٍ يَعْقِلُ دُونَ مَنْ لَا يَعْقِلُ وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ طَلَاقُ الْمَجْنُونِ وَالْمُبَرْسَمِ وَالصّبِيّ. وَأَمّا الْمَأْخَذُ السّادِسُ وَهُوَ خَبَرُ كُلّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ فَمِثْلُهُ سَوَاءٌ لَا يَصِحّ وَلَوْ صَحّ لَكَانَ فِي الْمُكَلّفِ وَجَوَابٌ ثَالِثٌ أَنّ السّكْرَانَ الّذِي لَا يَعْقِلُ إمّا مَعْتُوهٌ وَإِمّا مُلْحَقٌ بِهِ وَقَدْ ادّعَتْ طَائِفَةٌ أَنّهُ مَعْتُوهٌ. قَالُوا: الْمَعْتُوهُ فِي اللّغَةِ الّذِي لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا يَدْرِي مَا يَتَكَلّمُ بِهِ. وَأَمّا الْمَأْخَذُ السّابِعُ وَهُوَ أَنّ الصّحَابَةَ أَوْقَعُوا عَلَيْهِ الطّلَاقَ فَالصّحَابَةُ وَأَمّا أَثَرُ ابْنِ عَبّاسٍ فَلَا يَصِحّ عَنْهُ لِأَنّهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا الْحَجّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَفِي الثّانِيَةِ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى وَأَمّا ابْنُ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةُ فَقَدْ خَالَفَهُمَا عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ.
.فصل طَلَاقُ الْإِغْلَاقِ:
وَأَمّا طَلَاقُ الْإِغْلَاقِ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا: سَمِعْت النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَا طَلَاقَ وَلَا عِتَاقَ فِي إغْلَاقٍ يَعْنِي الْغَضَبَ هَذَا نَصّ أَحْمَدَ حَكَاهُ عَنْهُ الْخَلّالُ وَأَبُو بَكْرٍ فِي الشّافِي وزَادِ الْمُسَافِرِ. فَهَذَا تَفْسِيرُ أَحْمَدَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ: أَظُنّهُ الْغَضَبَ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ بَابُ الطّلَاقِ عَلَى غَلَطٍ. وَفَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ بِأَنّهُ الْإِكْرَاهُ وَفَسّرَهُ غَيْرُهُمَا: بِالْجُنُونِ وَقِيلَ هُوَ نَهْيٌ عَنْ إيقَاعِ الطّلَقَاتِ الثّلَاثِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَيُغْلَقُ عَلَيْهِ الطّلَاقُ حَتّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ كَغَلْقِ الرّهْنِ حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيّ. قَالَ شَيْخُنَا وَحَقِيقَةُ الْإِغْلَاقِ أَنْ يُغْلَقَ عَلَى الرّجُلِ قَلْبُهُ فَلَا يَقْصِدُ الْكَلَامَ أَوْ لَا يَعْلَمُ بِهِ كَأَنّهُ انْغَلَقَ عَلَيْهِ قَصْدُهُ وَإِرَادَتُهُ. قُلْت: قَالَ أَبُو الْعَبّاسِ الْمُبَرّدُ: الْغَلْقُ ضِيقُ الصّدْرِ وَقِلّةُ الصّبْرِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ مُخَلّصًا قَالَ شَيْخُنَا: وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَالْمَجْنُونِ وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسُكْرٍ أَوْ غَضَبٍ وَكُلّ مَنْ لَا قَصْدَ لَهُ وَلَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِمَا قَالَ. وَالْغَضَبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. قَالَ وَهَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِلَا نِزَاعٍ.
وَالثّانِي: مَا يَكُونُ فِي مُبَادِيهِ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنْ تَصَوّرِ مَا يَقُولُ وَقَصَدَهُ فَهَذَا يَقَعُ طَلَاقُهُ.
الثّالِثُ أَنْ يَسْتَحْكِمَ وَيَشْتَدّ بِهِ فَلَا يُزِيلُ عَقْلَهُ بِالْكُلّيّةِ وَلَكِنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِيّتِهِ بِحَيْثُ يَنْدَمُ عَلَى مَا فَرّطَ مِنْهُ إذَا زَالَ فَهَذَا مَحِلّ نَظَرٍ وَعَدَمُ الْوُقُوعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَوِيّ مُتّجِهٌ.
.حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الطّلَاقِ قَبْلَ النّكَاحِ:
فِي السّنَنِ: مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «لَا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا عِتْقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا طَلَاقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِك» قَالَ التّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَسَأَلْت مُحَمّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ فَقُلْت: أَيّ شَيْءٍ أَصَحّ فِي الطّلَاقِ قَبْلَ النّكَاحِ؟ فَقَالَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد: لَا بَيْعَ إلّا فِيمَا يَمْلِكُ وَلَا وَفَاءَ نَذْرٍ إلّا فِيمَا يَمْلِكُ وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ: عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا طَلَاقَ قَبْلَ النّكَاحِ وَلَا عِتْقَ قَبْلَ مِلْكٍ وَقَالَ وَكِيعٌ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي كِلَاهُمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ يَرْفَعُهُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَا طَلَاقَ إلّا مِنْ بَعْدِ نِكَاحٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بَلَغَ ابْنَ عَبّاسٍ أَنّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ إنْ طَلّقَ مَا لَمْ يَنْكِحْ فَهُوَ جَائِزٌ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أَخْطَأَ فِي هَذَا إنّ اللّهَ تَعَالَى يَقُول: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ} [الْأَحْزَابُ 49] وَلَمْ يَقُلْ إذَا طَلّقْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ نَكَحْتُمُوهُنّ. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ: عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ إنْ تَزَوّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ فَقَالَ عَلِيّ لَيْسَ طَلَاقٌ إلّا مِنْ بَعْدِ مِلْكٍ وَثَبَتَ عَنْهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لَا طَلَاقَ إلّا مِنْ بَعْدِ نِكَاحٍ وَإِنْ سَمّاهَا وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُهُمْ وَداَوُد وَأَصْحَابُهُ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَمِنْ حُجّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنّ الْقَائِلَ إنْ تَزَوّجْتُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ مُطَلّقٌ لِأَجْنَبِيّةٍ وَذَلِكَ مُحَالٌ فَإِنّهَا حِينَ الطّلَاقِ الْمُعَلّقِ أَجْنَبِيّةٌ وَالْمُتَجَدّدُ هُوَ نِكَاحُهَا وَالنّكَاحُ لَا يَكُونُ طَلَاقًا فَعُلِمَ أَنّهَا لَوْ طَلُقَتْ فَإِنّمَا يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِنَادًا إلَى الطّلَاقِ الْمُتَقَدّمِ مُعَلّقًا وَهِيَ إذْ ذَاكَ أَجْنَبِيّةٌ وَتَجَدّدُ الصّفَةِ لَا يَجْعَلُهُ مُتَكَلّمًا بِالطّلَاقِ عِنْدَ وُجُودِهَا فَإِنّهُ عِنْدَ وُجُودِهَا مُخْتَارٌ لِلنّكَاحِ غَيْرُ مُرِيدٍ لِلطّلَاقِ فَلَا يَصِحّ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيّةٍ إنْ دَخَلْت الدّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ وَهِيَ زَوْجَتُهُ لَمْ تَطْلُقْ بِغَيْرِ خِلَافٍ.
.الْفَرْقُ بَيْنَ تَعْلِيقِ الطّلَاقِ وَتَعْلِيقِ الْعِتْقِ:
فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَعْلِيقِ الطّلَاقِ وَتَعْلِيقِ الْعِتْقِ؟ فَإِنّهُ لَوْ قَالَ إنْ مَلَكْتُ فُلَانًا فَهُوَ حُرّ صَحّ التّعْلِيقُ وَعَتَقَ بِالْمِلْكِ؟. قِيلَ فِي تَعْلِيقِ الْعِتْقِ قَوْلَانِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ كَمَا عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي تَعْلِيقِ الطّلَاقِ وَالصّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ الّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِهِ وَعَلَيْهِ أَصْحَابُهُ صِحّةُ تَعْلِيقِ الْعِتْقِ دُونَ الطّلَاقِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنّ الْعِتْقَ لَهُ قُوّةٌ وَسِرَايَةٌ وَلَا يَعْتَمِدُ نُفُوذَ الْمِلْكِ فَإِنّهُ يَنْفُذُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَيَصِحّ أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ سَبَبًا لِزَوَالِهِ بِالْعِتْقِ عَقْلًا وَشَرْعًا كَمَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِالْعِتْقِ عَنْ ذِي رَحِمِهِ الْمُحَرّمِ بِشِرَائِهِ وَكَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا لِيُعْتِقَهُ فِي كَفّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ وَكُلّ هَذَا يُشْرَعُ فِيهِ جَعْلُ الْمِلْكِ سَبَبًا لِلْعِتْقِ فَإِنّهُ قُرْبَةٌ مَحْبُوبَةٌ لِلّهِ تَعَالَى فَشَرَعَ اللّهُ سُبْحَانَهُ التّوَسّلَ إلَيْهِ بِكُلّ وَسِيلَةٍ مُفْضِيَةٍ إلَى مَحْبُوبِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطّلَاقُ فَإِنّهُ بَغِيضٌ إلَى اللّهِ وَهُوَ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَيْهِ وَلَمْ يَجْعَلْ مِلْكَ الْبُضْعِ بِالنّكَاحِ سَبَبًا لِإِزَالَتِهِ الْبَتّةَ وَفَرْقٌ ثَانٍ أَنّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ مِنْ بَابِ نَذْرِ الْقُرَبِ وَالطّاعَاتِ وَالتّبَرّرِ كَقَوْلِهِ لَئِنْ آتَانِي اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ لَأَتَصَدّقَن بِكَذَا وَكَذَا فَإِذَا وُجِدَ الشّرْطُ لَزِمَهُ مَا عَلّقَهُ بِهِ مِنْ الطّاعَةِ الْمَقْصُودَةِ فَهَذَا لَوْنٌ وَتَعْلِيقُ الطّلَاقِ عَلَى الْمِلْكِ لَوْنٌ آخَرُ.
.حَكَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَحْرِيمِ طَلَاقِ الْحَائِضِ وَالنّفَسَاءِ وَالْمَوْطُوءَةِ فِي طُهْرِهَا:
وَتَحْرِيمِ إيقَاعِ الثّلَاثِ جُمْلَةً:
فِي الصّحِيحَيْنِ أَنّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمّ لِيُمْسِكْهَا حَتّى تَطْهُرَ ثُمّ تَحِيضَ ثُمّ تَطْهُرَ ثُمّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ يُطَلّقُ قَبْلَ أَنْ يَمَسّ فَتِلْكَ الْعِدّةُ الّتِي أَمَرَ اللّهُ أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النّسَاءُ. مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمّ لِيُطَلّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا. وَفِي لَفْظٍ إنْ شَاءَ طَلّقَهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسّ فَذَلِكَ الطّلَاقُ لِلْعِدّةِ كَمَا أَمَرَهُ اللّهُ تَعَالَى. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيّ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمّ لِيُطَلّقْهَا فِي قُبُلِ عِدّتِهَا. وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالنّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا: قَالَ طَلّقَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَرَدّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا وَقَالَ إذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَرَأَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا أَيّهَا النّبِيّ إذَا طَلّقْتُمْ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنّ فِي قُبُلِ عِدّتِهِنّ [الطّلَاقُ 1].
.أَنْوَاعُ الطّلَاقِ مِنْ حَيْثُ الْحِلّ وَالْحُرْمَةِ:
فَتَضَمّنَ هَذَا الْحُكْمُ أَنّ الطّلَاقَ عَلَى أَرْبَعِهِ أَوْجُهٍ وَجْهَانِ حَلَالٌ وَوَجْهَانِ حَرَامٌ. فَالْحَلَالَانِ أَنْ يُطَلّقَ امْرَأَتَهُ طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ يُطَلّقَهَا حَامِلًا مُسْتَبِينًا حَمْلُهَا. وَالْحَرَامَانِ أَنْ يُطَلّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ يُطَلّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ هَذَا فِي طَلَاقِ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَأَمّا مَنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَيَجُوزُ طَلَاقُهَا حَائِضًا وَطَاهِرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلّقْتُمُ النّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسّوهُنّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنّ فَرِيضَةً} [الْبَقَرَةُ 236]. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّونَهَا} [الْأَحْزَابُ 49] وَقَدْ دَلّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} [الطّلَاقُ 1] وَهَذِهِ لَا عِدّةَ لَهَا وَنَبّهَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَوْلِهِ فَتِلْكَ الْعِدّةُ الّتِي أَمَرَ اللّهُ أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النّسَاءُ وَلَوْلَا هَاتَانِ الْآيَتَانِ اللّتَانِ فِيهِمَا إبَاحَةُ الطّلَاقِ قَبْلَ الدّخُولِ لَمَنَعَ مِنْ طَلَاقِ مَنْ لَا عِدّةَ لَهُ عَلَيْهَا. وَفِي سُنَنِ النّسَائِيّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ أُخْبِرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ رَجُلٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا فَقَامَ غَضْبَانُ فَقَالَ أَيَلْعَبُ بِكِتَابِ اللّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ حَتّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَفَلَا أَقْتُلُهُ. وَفِي الصّحِيحَيْنِ: عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ الطّلَاقِ قَالَ أَمّا أَنْتَ إنْ طَلّقْتَ امْرَأَتَكَ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَنِي بِهَذَا وَإِنْ كُنْتَ طَلّقْتهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَك وَعَصَيْتَ أَمَرَك مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ فَتَضَمّنَتْ هَذِهِ النّصُوصُ أَنّ الْمُطَلّقَةَ نَوْعَانِ مَدْخُولٌ بِهَا وَغَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ تَطْلِيقُهَا ثَلَاثًا مَجْمُوعَةً وَيَجُوزُ تَطْلِيقُ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا طَاهِرًا وَحَائِضًا. وَأَمّا الْمَدْخُولُ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ حَرّمَ طَلَاقَهَا وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَبِينَةَ الْحَمْلِ جَازَ طَلَاقُهَا بَعْدَ الْوَطْءِ وَقَبْلَهُ وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا لَمْ يَجُزْ طَلَاقُهَا بَعْدَ الْوَطْءِ فِي طُهْرِ الْإِصَابَةِ وَيَجُوزُ قَبْلَهُ. هَذَا الّذِي شَرَعَهُ اللّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنْ الطّلَاقِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُقُوعِ الطّلَاقِ الّذِي أَذِنَ اللّهُ فِيهِ وَأَبَاحَهُ إذَا كَانَ مِنْ مُكَلّفٍ مُخْتَارٍ عَالِمٍ بِمَدْلُولِ اللّفْظِ قَاصِدٍ لَهُ.
.الِاخْتِلَافُ فِي وُقُوعِ الْمُحَرّمِ مِنْ الطّلَاقِ:
وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ الْمُحَرّمِ مِنْ ذَلِكَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الطّلَاقُ فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي الطّهْرِ الّذِي وَاقَعَهَا فِيهِ. الْمَسْأَلَةُ الثّانِيَةُ فِي جَمْعِ الثّلَاثِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْمَسْأَلَتَيْنِ تَحْرِيرًا وَتَقْرِيرًا كَمَا ذَكَرْنَاهُمَا تَصْوِيرًا وَنَذْكُرُ حُجَجَ الْفَرِيقَيْنِ وَمُنْتَهَى أَقْدَامِ الطّائِفَتَيْنِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنّ الْمُقَلّدَ الْمُتَعَصّبَ لَا يَتْرُكُ مَنْ قَلّدَهُ وَلَوْ جَاءَتْهُ كُلّ آيَةٍ وَأَنّ طَالِبَ الدّلِيلِ لَا يَأْتَمّ بِسِوَاهُ وَلَا يُحَكّمُ إلّا إيّاهُ وَلِكُلّ مِنْ النّاسِ مَوْرِدٌ لَا يَتَعَدّاهُ وَسَبِيلٌ لَا يَتَخَطّاهُ وَلَقَدْ عُذِرَ مَنْ حَمَلَ مَا انْتَهَتْ إلَيْهِ قُوَاهُ وَسَعَى إلَى حَيْثُ انْتَهَتْ إلَيْهِ خُطَاهُ.
.هَلْ يَقَعُ الطّلَاقُ فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي الطّهْرِ الّذِي وَاقَعَهَا فِيهِ:
فَأَمّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَإِنّ الْخِلَافَ فِي وُقُوعِ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ لَمْ يَزَلْ ثَابِتًا بَيْنَ السّلَفِ وَالْخَلَفِ وَقَدْ وَهِمَ مَنْ ادّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى وُقُوعِهِ وَقَالَ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِ وَخَفِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا اطّلَعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: كَيْفَ وَالْخِلَافُ بَيْنَ النّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْلُومُ الثّبُوتِ عَنْ الْمُتَقَدّمِينَ وَالْمُتَأَخّرِينَ؟ قَالَ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ السّلَامِ الْخُشَنِيّ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثّقَفِيّ حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ لَا يُعْتَدّ بِذَلِك ذَكَرَهُ أَبُوُ مُحَمّدُ بْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلّى بِإِسْنَادِهِ إلَيْهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ فِي مُصَنّفِهِ: عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ قَالَ كَانَ لَا يَرَى طَلَاقًا مَا خَالَفَ وَجْهَ الطّلَاقِ وَوَجْهَ الْعِدّةِ وَكَانَ يَقُولُ وَجْهُ الطّلَاقِ أَنْ يُطَلّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَإِذَا اسْتَبَانَ حَمْلُهَا وَقَالَ الْخُشَنِيّ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ حَدّثَنَا هَمّامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو أَنّهُ قَالَ فِي الرّجُلِ يُطَلّقُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ لَا يُعْتَدّ بِهَا قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ بْنُ حَزْمٍ: وَالْعَجَبُ مِنْ جُرْأَةِ مَنْ ادّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ هَذَا وَهُوَ لَا يَجِدُ فِيمَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ فِي إمْضَاءِ الطّلَاقِ فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ كَلِمَةً عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ غَيْرَ رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَدْ عَارَضَهَا مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنّا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَرِوَايَتَيْنِ سَاقِطَتَيْنِ عَنْ عُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا. إحْدَاهُمَا: رَوَيْنَاهَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ سَمْعَانَ عَنْ رَجُلٍ أَخْبَرَهُ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَانَ يَقْضِي فِي الْمَرْأَةِ الّتِي يُطَلّقُهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَائِضٌ أَنّهَا لَا تَعْتَدّ بِحَيْضَتِهَا تِلْكَ وَتَعْتَدّ بَعْدَهَا بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ. قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ: وَالْأُخْرَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسّانٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ مَوْلَى أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ رَجُلٍ سَمّاهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنّهُ قَالَ فِيمَنْ طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ يَلْزَمُهُ الطّلَاقُ وَتَعْتَدّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ سِوَى تِلْكَ الْحَيْضَةِ قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ بَلْ نَحْنُ أَسْعَدُ بِدَعْوَى الْإِجْمَاعِ هَاهُنَا لَوْ اسْتَجَزْنَا مَا يَسْتَجِيزُونَ وَنَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَاطِبَةً وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ جَمِيعُ الْمُخَالِفِينَ لَنَا فِي ذَلِكَ أَنّ الطّلَاقَ فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ بِدْعَةٌ نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُخَالِفَةٌ لِأَمْرِهِ فَإِذَا كَانَ لَا شَكّ فِي هَذَا عِنْدَهُمْ فَكَيْفَ يَسْتَجِيزُونَ الْحُكْمَ بِتَجْوِيزِ الْبِدْعَةِ الّتِي يُقِرّونَ أَنّهَا بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ أَلَيْسَ بِحُكْمِ الْمُشَاهَدَةِ مُجِيزُ الْبِدْعَةِ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ الْقَائِلِينَ بِأَنّهَا بِدْعَةٌ؟ قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ: وَحَتّى لَوْ لَمْ يَبْلُغْنَا الْخِلَافُ لَكَانَ الْقَاطِعُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِمَا لَا يَقِينَ عِنْدَهُ وَلَا بَلَغَهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ كَاذِبًا عَلَى جَمِيعِهِمْ.
.أَدِلّةُ الْمَانِعِينَ مِنْ وُقُوعِ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ:
قَالَ الْمَانِعُونَ مِنْ وُقُوعِ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ لَا يُزَالُ النّكَاحُ الْمُتَيَقّنُ إلّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ مُتَيَقّنٍ. فَإِذَا أَوَجَدْتُمُونَا وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الثّلَاثَةِ رَفَعْنَا حُكْمَ النّكَاحِ لَا سَبِيلَ إلَى رَفْعِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ. قَالُوا: وَكَيْفَ وَالْأَدِلّةُ الْمُتَكَاثِرَةُ تَدُلّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ فَإِنّ هَذَا الطّلَاقَ لَمْ يَشْرَعْهُ اللّهُ تَعَالَى الْبَتّةَ وَلَا أَذِنَ فِيهِ فَلَيْسَ فِي شَرْعِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ بِنُفُوذِهِ وَصِحّتِهِ؟. قَالُوا: وَإِنّمَا يَقَعُ مِنْ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ مَا مَلّكَهُ اللّهُ تَعَالَى لِلْمُطَلّقِ وَلِهَذَا لَا يَقَعُ بِهِ الرّابِعَةُ لِأَنّهُ لَمْ يُمَلّكْهَا إيّاهُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّهُ لَمْ يُمَلّكْهُ الطّلَاقَ الْمُحَرّمَ وَلَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ فَلَا يَصِحّ وَلَا يَقَعُ. قَالُوا: وَلَوْ وَكّلَ وَكِيلًا أَنْ يُطَلّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا جَائِزًا فَطَلّقَ طَلَاقًا فَكَيْفَ كَانَ إذْنُ الْمَخْلُوقِ مُعْتَبَرًا فِي صِحّةِ إيقَاعِ الطّلَاقِ دُونَ إذْنِ الشّارِعِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ الْمُكَلّفَ إنّمَا يَتَصَرّفُ بِالْإِذْنِ فَمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللّهُ وَرَسُولُهُ لَا يَكُونُ مَحَلّا لِلتّصَرّفِ الْبَتّةَ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَالشّارِعُ قَدْ حَجَرَ عَلَى الزّوْجِ أَنْ يُطَلّقَ فِي حَالِ الْحَيْضِ أَوْ بَعْدَ الْوَطْءِ فِي الطّهْرِ فَلَوْ صَحّ طَلَاقُهُ لَمْ يَكُنْ لِحَجْرِ الشّارِعِ مَعْنًى وَكَانَ حَجْرُ الْقَاضِي عَلَى مَنْ مَنَعَهُ التّصَرّفَ أَقْوَى مِنْ حَجْرِ الشّارِعِ حَيْثُ يَبْطُلُ التّصَرّفُ بِحَجْرِهِ. قَالُوا: وَبِهَذَا أَبْطَلْنَا الْبَيْعَ وَقْتَ النّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَنّهُ بَيْعٌ حَجَرَ الشّارِعُ عَلَى بَائِعِهِ هَذَا الْوَقْتَ فَلَا يَجُوزُ تَنْفِيذُهُ وَتَصْحِيحُهُ. قَالُوا: وَلِأَنّهُ طَلَاقٌ مُحَرّمٌ مَنْهِيّ عَنْهُ فَالنّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيّ عَنْهُ فَلَوْ صَحّحْنَاهُ لَكَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَنْهِيّ عَنْهُ وَالْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الصّحّةِ وَالْفَسَادِ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَالشّارِعُ إنّمَا نَهَى عَنْهُ وَحَرّمَهُ لِأَنّهُ يُبْغِضُهُ وَلَا يُحِبّ وُقُوعَهُ بَلْ وُقُوعُهُ مَكْرُوهٌ إلَيْهِ فَحَرّمَهُ لِئَلّا يَقَعَ مَا يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ وَفِي تَصْحِيحِهِ وَتَنْفِيذِهِ ضِدّ هَذَا الْمَقْصُودِ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ النّكَاحُ الْمَنْهِيّ عَنْهُ لَا يَصِحّ لِأَجْلِ النّهْيِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطّلَاقِ وَكَيْفَ أَبْطَلْتُمْ مَا نَهَى اللّهُ عَنْهُ مِنْ النّكَاحِ وَصَحّحْتُمْ مَا حَرّمَهُ وَنَهَى عَنْهُ مِنْ الطّلَاقِ وَالنّهْيُ يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؟. قَالُوا: وَيَكْفِينَا مِنْ هَذَا حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَامّ الّذِي لَا تَخْصِيصَ فِيهِ بِرَدّ مَا خَالَفَ أَمْرَهُ وَإِبْطَالَهُ وَإِلْغَاءَهُ كَمَا فِي الصّحِيحِ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا: كُلّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ فَكَيْفَ يُقَالُ إنّهُ صَحِيحٌ لَازِمٌ نَافِذٌ؟ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ الْحُكْمِ بِرَدّهِ؟. قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِنّهُ طَلَاقٌ لَمْ يَشْرَعْهُ اللّهُ أَبَدًا وَكَانَ مَرْدُودًا بَاطِلًا كَطَلَاقِ الْأَجْنَبِيّةِ وَلَا يَنْفَعُكُمْ الْفَرْقُ بِأَنّ الْأَجْنَبِيّةَ لَيْسَتْ مَحَلّا لِلطّلَاقِ بِخِلَافِ الزّوْجَةِ فَإِنّ هَذِهِ الزّوْجَةَ لَيْسَتْ مَحَلّا لِلطّلَاقِ الْمُحَرّمِ وَلَا هُوَ مِمّا مَلّكَهُ الشّارِعُ إيّاهُ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ إنّمَا أَمَرَ بِالتّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ وَلَا أَشَرّ مِنْ التّسْرِيحِ الّذِي حَرّمَهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمُوجَبُ عَقْدِ النّكَاحِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمّا إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَالتّسْرِيحُ الْمُحَرّمُ أَمْرٌ ثَالِثٌ غَيْرُهُمَا فَلَا عِبْرَةَ بِهِ الْبَتّةَ. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللّهُ تَعَالَى: {يَا أَيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} وَصَحّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُبَيّنِ عَنْ اللّهِ مُرَادَهُ مِنْ كَلَامِهِ أَنّ الطّلَاقَ الْمَشْرُوعَ الْمَأْذُونَ فِيهِ هُوَ الطّلَاقُ فِي زَمَنِ الطّهْرِ الّذِي لَمْ يُجَامِعْ فِيهِ أَوْ بَعْدَ اسْتِبَانَةِ الْحَمْلِ وَمَا عَدَاهُمَا فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ لِلْعِدّةِ فِي حَقّ الْمَدْخُولِ بِهَا فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا فَكَيْفَ تَحْرُمُ الْمَرْأَةُ بِهِ؟. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الطّلَاقُ مَرّتَانِ} [الْبَقَرَةُ 269] وَمَعْلُومٌ أَنّهُ إنّمَا أَرَادَ الطّلَاقَ الْمَأْذُونَ فِيهِ وَهُوَ الطّلَاقُ لِلْعِدّةِ فَدَلّ عَلَى أَنّ مَا عَدَاهُ لَيْسَ مِنْ الطّلَاقِ فَإِنّهُ حَصَرَ الطّلَاقَ الْمَشْرُوعَ الْمَأْذُونَ فِيهِ الّذِي يَمْلِكُ بِهِ الرّجْعَةَ فِي مَرّتَيْنِ فَلَا يَكُونُ مَا عَدَاهُ طَلَاقًا. قَالُوا: وَلِهَذَا كَانَ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ يَقُولُونَ إنّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِالْفَتْوَى فِي الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ كَمَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ الْأَعْمَشِ أَنّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ مَنْ طَلّقَ كَمَا أَمَرَهُ اللّهُ فَقَدْ بَيّنَ اللّهُ لَهُ وَمَنْ خَالَفَ فَإِنّا لَا نُطِيقُ خِلَافَهُ وَلَوْ وَقَعَ طَلَاقُ الْمُخَالِفِ لَمْ يَكُنْ الْإِفْتَاءُ بِهِ غَيْرَ مُطَاقٍ لَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِلتّفْرِيقِ مَعْنًى إذْ كَانَ النّوْعَانِ وَاقِعَيْنِ نَافِذَيْنِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَيْضًا: مَنْ أَتَى الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ فَقَدْ بَيّنَ اللّهُ لَهُ وَإِلّا فَوَاَللّهِ مَا لَنَا طَاقَةٌ بِكُلّ مَا تُحْدِثُونَ وَقَالَ بَعْضُ الصّحَابَةِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الطّلَاقِ الثّلَاثِ مَجْمُوعَةً مَنْ طَلّقَ كَمَا أُمِرَ فَقَدْ بُيّنَ لَهُ وَمَنْ لَبّسَ تَرَكْنَاهُ وَتَلْبِيسَهُ قَالُوا: وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ كُلّهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِالسّنَدِ الصّحِيحِ الثّابِتِ حَدّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالّ أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ مَوْلَى عُرْوَةَ يَسْأَلُ ابْنَ عُمَرَ قَالَ أَبُو الزّبَيْرِ وَأَنَا أَسْمَعُ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟ فَقَالَ طَلّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عُمَرَ طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ عَبْدُ اللّهِ فَرَدّهَا عَلَيّ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا وَقَالَ إذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَقَرَأَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا أَيّهَا النّبِيّ إذَا طَلّقْتُمْ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنّ فِي قُبُلِ عِدّتِهِنّ قَالُوا: وَهَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصّحّةِ فَإِنّ أَبَا الزّبَيْرِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ عَنْ الْحِفْظِ وَالثّقَةِ وَإِنّمَا يُخْشَى مِنْ تَدْلِيسِهِ فَإِذَا قَالَ سَمِعْت أَوْ حَدّثَنِي زَالَ مَحْذُورُ التّدْلِيسِ وَزَالَتْ الْعِلّةُ الْمُتَوَهّمَةُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَحْتَجّونَ بِهِ إذَا قَالَ عَنْ وَلَمْ يُصَرّحْ بِالسّمَاعِ وَمُسْلِمٌ يُصَحّحُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِهِ فَأَمّا إذَا صَرّحَ بِالسّمَاعِ فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ وَصَحّ الْحَدِيثُ وَقَامَتْ الْحُجّةُ. قَالُوا: وَلَا نَعْلَمُ فِي خَبَرِ أَبِي الزّبَيْرِ هَذَا مَا يُوجِبُ رَدّهُ وَإِنّمَا رَدّهُ مَنْ رَدّهُ اسْتِبْعَادًا وَاعْتِقَادًا أَنّهُ خِلَافُ الْأَحَادِيثِ الصّحِيحَةِ وَنَحْنُ نَحْكِي كَلَامَ مَنْ رَدّهُ وَنُبَيّنُ أَنّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ الرّدّ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَالْأَحَادِيثُ كُلّهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ أَبُو الزّبَيْرِ. وَقَالَ الشّافِعِيّ: وَنَافِعٌ أَثْبَتُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ أَبِي الزّبَيْرِ وَالْأَثْبَتُ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى أَنْ يُقَالَ بِهِ إذَا خَالَفَهُ. وَقَالَ الْخَطّابِيّ: حَدِيثُ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ أَثْبَتُ مِنْ هَذَا يَعْنِي قَوْلَهُ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا وَقَوْلُهُ أَرَأَيْتَ إنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ؟ قَالَ فَمَه قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ: وَهَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْهُ أَحَدٌ غَيْرُ أَبِي الزّبَيْرِ وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ أَجِلّةٌ فَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَأَبُو الزّبَيْرِ لَيْسَ بِحُجّةٍ فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ مِثْلُهُ فَكَيْفَ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَمْ يَرْوِ أَبُو الزّبَيْرِ حَدِيثًا أَنْكَرَ مِنْ هَذَا. فَهَذَا جُمْلَةُ مَا رُدّ بِهِ خَبَرُ أَبِي الزّبَيْرِ وَهُوَ عِنْدَ التّأَمّلِ لَا يُوجِبُ رَدّهُ وَلَا بُطْلَانَهُ.
---------
.الرّدّ عَلَى مَنْ ضَعّفَ حَدِيثَ أَبِي الزّبَيْرِ:
أَمّا قَوْلُ أَبِي دَاوُدَ الْأَحَادِيثُ كُلّهَا عَلَى خِلَافِهِ فَلَيْسَ بِأَيْدِيكُمْ سِوَى تَقْلِيدِ أَبِي دَاوُدَ وَأَنْتُمْ لَا تَرْضَوْنَ ذَلِكَ وَتَزْعُمُونَ أَنّ الْحُجّةَ مِنْ جَانِبِكُمْ فَدَعُوا التّقْلِيدَ وَأَخْبِرُونَا أَيْنَ فِي الْأَحَادِيثِ الصّحِيحَةِ مَا يُخَالِفُ حَدِيثَ أَبِي الزّبَيْرِ؟ فَهَلْ فِيهَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَسَبَ عَلَيْهِ تِلْكَ الطّلْقَةَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَدّ بِهَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَنَعَمْ وَاَللّهِ هَذَا خِلَافٌ صَرِيحٌ لِحَدِيثِ أَبِي الزّبَيْرِ وَلَا تَجِدُونَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا وَغَايَةُ مَا بِأَيْدِيكُمْ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا وَالرّجْعَةُ تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الطّلَاقِ. وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ سُئِلَ أَتَعْتَدّ بِتِلْكَ التّطْلِيقَةِ؟ فَقَالَ أَرَأَيْت إنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ وَقَوْلُ نَافِعٍ أَوْ مَنْ دُونَهُ فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ حَرْفٌ وَاحِدٌ يَدُلّ عَلَى وُقُوعِهَا مُعَارَضَتِهَا لِقَوْلِهِ فَرَدّهَا عَلَيّ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا وَتَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ وَمُعَارَضَتُهَا لِتِلْكَ الْأَدِلّةِ الْمُتَقَدّمَةِ الّتِي سُقْنَاهَا وَعِنْدَ الْمُوَازَنَةِ يَظْهَرُ التّفَاوُتُ وَعَدَمُ الْمُقَاوَمَةِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا فِي كَلِمَةٍ كَلِمَةٍ مِنْهَا.
.مَعْنَى الْمُرَاجَعَةِ فِي كَلَامِ اللّهِ وَرَسُولِهِ:
أَمّا قَوْلُهُ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا فَالْمُرَاجَعَةُ عَلَى ثَلَاثِ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: ابْتِدَاءُ النّكَاحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ} [الْبَقَرَةُ 230] وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ أَنّ الْمُطَلّقَ هَاهُنَا: هُوَ الزّوْجُ الثّانِي وَأَنّ التّرَاجُعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزّوْجِ الْأَوّلِ وَذَلِكَ نِكَاحٌ مُبْتَدَأٌ.
وَثَانِيهِمَا: الرّدّ الْحِسّيّ إلَى الْحَالَةِ الّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَوّلًا كَقَوْلِهِ لِأَبِي النّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ لَمّا نَحَلَ ابْنَهُ غُلَامًا خَصّهُ بِهِ دُونَ وَلَدِهِ رَدّهُ فَهَذَا رَدّ مَا لَمْ تَصِحّ فِيهِ الْهِبَةُ الْجَائِزَةُ الّتِي سَمّاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَوْرًا وَأَخْبَرَ أَنّهَا لَا تَصْلُحُ وَأَنّهَا خِلَافُ الْعَدْلِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ لِمَنْ فَرّقَ بَيْنَ جَارِيَةٍ وَوَلَدِهَا فِي الْبَيْعِ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَرَدّ الْبَيْعَ وَلَيْسَ هَذَا الرّدّ مُسْتَلْزِمًا لِصِحّةِ الْبَيْعِ فَإِنّهُ بَيْعٌ بَاطِلٌ بَلْ هُوَ رَدّ شَيْئَيْنِ إلَى حَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا كَمَا كَانَا وَهَكَذَا الْأَمْرُ بِمُرَاجَعَةِ ابْنِ عُمَرَ امْرَأَتَهُ ارْتِجَاعٌ وَرَدّ إلَى حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ كَمَا كَانَا قَبْلَ الطّلَاقِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الطّلَاقِ فِي الْحَيْضِ الْبَتّةَ. وَأَمّا قَوْلُهُ أَرَأَيْتَ إنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ فَيَا سُبْحَانَ اللّهِ أَيْنَ الْبَيَانُ فِي هَذَا اللّفْظِ بِأَنّ تِلْكَ الطّلْقَةَ حَسَبَهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْأَحْكَامُ لَا تُؤْخَذُ بِمِثْلِ هَذَا وَلَوْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ حَسَبَهَا عَلَيْهِ وَاعْتَدّ عَلَيْهِ بِهَا لَمْ يَعْدِلْ عَنْ الْجَوَابِ بِفِعْلِهِ وَشَرْعِهِ إلَى: أَرَأَيْت وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ أَكْرَهُ مَا إلَيْهِ أَرَأَيْت فَكَيْفَ يَعْدِلُ لِلسّائِلِ عَنْ صَرِيحِ السّنّةِ إلَى لَفْظَةِ أَرَأَيْت الدّالّةِ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الرّأْيِ سَبَبُهُ عَجْزُ الْمُطَلّقِ وَحُمْقُهُ عَنْ إيقَاعِ الطّلَاقِ عَلَى الْوَجْهِ الّذِي أَذِنَ اللّهُ لَهُ فِيهِ وَالْأَظْهَرُ فِيمَا هَذِهِ صِفَتُهُ أَنّهُ لَا يُعْتَدّ بِهِ وَأَنّهُ سَاقِطٌ مِنْ فِعْلِ فَاعِلِهِ لِأَنّهُ لَيْسَ فِي دِينِ اللّهِ تَعَالَى حُكْمٌ نَافِذٌ سَبَبُهُ الْعَجْزُ وَالْحُمْقُ عَنْ امْتِثَالِ الْأَمْرِ إلّا أَنْ يَكُونَ فِعْلًا لَا يُمْكِنُ رَدّهُ بِخِلَافِ الْعُقُودِ الْمُحَرّمَةِ الّتِي مَنْ عَقَدَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرّمِ فَقَدْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ هَذَا أَدَلّ عَلَى الرّدّ مِنْهُ عَلَى الصّحّةِ وَاللّزُومِ فَإِنّهُ عَقْدُ عَاجِزٍ أَحْمَقَ عَلَى خِلَافِ أَمْرِ اللّهِ وَرَسُولِهِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا بَاطِلًا فَهَذَا الرّأْيُ وَالْقِيَاسُ أَدَلّ عَلَى بُطْلَانِ طَلَاقِ مَنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ مِنْهُ عَلَى صِحّتِهِ وَاعْتِبَارِهِ. وَأَمّا قَوْلُهُ فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا. فَفِعْلٌ مَبْنِيّ لِمَا لَمْ يُسَمّ فَاعِلُهُ فَإِذَا سُمّيَ فَاعِلُهُ ظَهَرَ وَتَبَيّنَ هَلْ فِي حُسْبَانِهِ حُجّةٌ أَوْ لَا؟ وَلَيْسَ فِي حُسْبَانِ الْفَاعِلِ الْمَجْهُولِ دَلِيلٌ الْبَتّةَ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَائِلُ فَحُسِبَتْ ابْنَ عُمَرَ أَوْ نَافِعًا أَوْ مَنْ دُونَهُ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ الّذِي حَسَبَهَا حَتّى تَلْزَمَ الْحُجّةُ بِهِ وَتَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ فَقَدْ تَبَيّنَ أَنّ سَائِرَ الْأَحَادِيثِ لَا تُخَالِفُ حَدِيثَ أَبِي الزّبَيْرِ وَأَنّهُ صَرِيحٌ فِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَرَهَا شَيْئًا وَسَائِرُ الْأَحَادِيثِ مُجْمَلَةٌ لَا بَيَانَ فِيهَا.
.رَدّ الْمُوقِعِينَ لِلطّلَاقِ عَلَى الْمَانِعِينَ:
قَالَ الْمُوقِعُونَ لَقَدْ ارْتَقَيْتُمْ أَيّهَا الْمَانِعُونَ مُرْتَقًى صَعْبًا وَأَبْطَلْتُمْ أَكْثَرَ طَلَاقِ الْمُطَلّقِينَ فَإِنّ غَالِبَهُ طَلَاقٌ بِدْعِيّ وَجَاهَرْتُمْ بِخِلَافِ الْأَئِمّةِ وَلَمْ تَتَحَاشَوْا خِلَافَ الْجُمْهُورِ وَشَذَذْتُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ الّذِي أَفْتَى جُمْهُورُ الصّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِخِلَافِهِ وَالْقُرْآنُ وَالسّنَنُ تَدُلّ عَلَى بُطْلَانِهِ. قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلّقَهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَهَذَا يَعُمّ كُلّ طَلَاقٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [الْبَقَرَةُ 228] وَلَمْ يُفَرّقْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الطّلَاقُ مَرّتَانِ} وَقَوْلُهُ: {وَلِلْمُطَلّقَاتِ مَتَاعٌ} عُمُومَاتٌ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا إلّا بِنَصّ أَوْ إجْمَاعٍ. قَالُوا: وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: الْأَمْرُ بِالْمُرَاجَعَةِ وَهِيَ لَمّ شَعَثِ النّكَاحِ وَإِنّمَا شَعَثُهُ وُقُوعُ الطّلَاقِ.
الثّانِي: قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فَرَاجَعْتهَا وَحَسِبْت لَهَا التّطْلِيقَةَ الّتِي طَلّقَهَا وَكَيْفَ يُظَنّ بِابْنِ عُمَرَ أَنّهُ يُخَالِفُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَحْسَبُهَا مِنْ طَلَاقِهَا وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَرَهَا شَيْئًا.
الثّالِثُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لَمّا قِيلَ لَهُ أَيُحْتَسَبُ بِتِلْكَ التّطْلِيقَةِ؟ قَالَ أَرَأَيْتَ إنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ أَيْ عَجْزُهُ وَحُمْقُهُ لَا يَكُونُ عُذْرًا لَهُ فِي عَدَمِ احْتِسَابِهِ بِهَا.
الرّابِعُ أَنّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَعْتَدّ بِهَا وَهَذَا إنْكَارٌ مِنْهُ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهَا وَهَذَا يُبْطِلُ تِلْكَ اللّفْظَةَ الّتِي رَوَاهَا عَنْهُ أَبُو الزّبَيْرِ إذْ كَيْفَ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ: وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَعْتَدّ بِهَا؟ وَهُوَ يَرَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ رَدّهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا.
الْخَامِسُ أَنّ مَذْهَبَ ابْنِ عُمَرَ الِاعْتِدَادُ بِالطّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصّةِ وَأَعْلَمُ النّاسِ بِهَا وَأَشَدّهُمْ اتّبَاعًا لِلسّنَنِ وَتَحَرّجًا مِنْ مُخَالَفَتِهَا. قَالُوا: وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ أَنّ نَافِعًا أَخْبَرَهُمْ عَن ابْنِ عُمَرَ أَنّهُ طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمّ لِيُمْسِكْهَا حَتّى تَطْهُرَ ثُمّ تَحِيضَ ثُمّ تَطْهُرَ ثُمّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ طَلّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسّ فَتِلْكَ الْعِدّةُ الّتِي أَمَرَ اللّهُ أَنْ تُطَلّقَ لَهَا النّسَاءُ وَهِيَ وَاحِدَةٌ هَذَا لَفْظُ حَدِيثِهِ. قَالُوا: وَرَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَرْسَلْنَا إلَى نَافِعٍ وَهُوَ يَتَرَجّلُ فِي دَارِ النّدْوَةِ ذَاهِبًا إلَى الْمَدِينَةِ وَنَحْنُ مَعَ عَطَاءٍ هَلْ حُسِبَتْ تَطْلِيقَةُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ؟ قَالَ نَعَمْ قَالُوا: وَرَوَى حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «مَنْ طَلّقَ فِي بِدْعَةٍ أَلْزَمْنَاهُ بِدْعَتَهُ» رَوَاهُ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ عَنْ زَكَرِيّا السّاجِي حَدّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيّةَ الذّارِعُ حَدّثَنَا حَمّادٌ فَذَكَرَهُ. قَالُوا: وَقَدْ تَقَدّمَ مَذْهَبُ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي فَتْوَاهُمَا بِالْوُقُوعِ. قَالُوا: وَتَحْرِيمُهُ لَا يَمْنَعُ تَرَتّبَ أَثَرِهِ وَحُكْمِهِ عَلَيْهِ كَالظّهَارِ فَإِنّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزَوْرٌ وَهُوَ مُحَرّمٌ بِلَا شَكّ وَتَرَتّبَ أَثَرُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ تَحْرِيمُ الزّوْجَةِ إلَى أَنْ يُكَفّرَ فَهَكَذَا الطّلَاقُ الْبِدْعِيّ مُحَرّمٌ وَيَتَرَتّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ إلَى أَنْ يُرَاجِعَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. قَالُوا: وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ لِلْمُطَلّقِ ثَلَاثًا: حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَك وَعَصَيْتَ رَبّك فِيمَا أَمَرَك بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِك فَأَوْقَعَ عَلَيْهِ الطّلَاقَ الّذِي عَصَى بِهِ الْمُطَلّقُ رَبّهُ عَزّ وَجَلّ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ الْقَذْفُ مُحَرّمٌ وَتَرَتّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنْ الْحَدّ وَرَدّ الشّهَادَةِ وَغَيْرِهِمَا. قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ النّكَاحِ الْمُحَرّمِ وَالطّلَاقِ الْمُحَرّمِ أَنّ النّكَاحَ عَقْدٌ يَتَضَمّنُ حِلّ الزّوْجَةِ وَمِلْكَ بُضْعِهَا فَلَا يَكُونُ إلّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا فَإِنّ الْأَبْضَاعَ فِي الْأَصْلِ عَلَى التّحْرِيمِ وَلَا يُبَاحُ مِنْهَا إلّا مَا أَبَاحَهُ الشّارِعُ بِخِلَافِ الطّلَاقِ فَإِنّهُ إسْقَاطٌ لِحَقّهِ وَإِزَالَةٌ لِمِلْكِهِ وَذَلِكَ لَا يَتَوَقّفُ عَلَى كَوْنِ السّبَبِ الْمُزِيلِ مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا كَمَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ الْعَيْنِ بِالْإِتْلَافِ الْمُحَرّمِ وَبِالْإِقْرَارِ الْكَاذِبِ وَبِالتّبَرّعِ الْمُحَرّمِ كَهِبَتِهَا لِمَنْ يَعْلَمُ أَنّهُ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ. قَالُوا: وَالْإِيمَانُ أَصْلُ الْعُقُودِ وَأَجَلّهَا وَأَشْرَفُهَا يَزُولُ بِالْكَلَامِ الْمُحَرّمِ إذَا كَانَ كُفْرًا فَكَيْفَ لَا يَزُولُ عَقْدُ النّكَاحِ بِالطّلَاقِ الْمُحَرّمِ الّذِي وُضِعَ لِإِزَالَتِهِ. قَالُوا: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ إلّا طَلَاقُ الْهَازِلِ فَإِنّهُ يَقَعُ مَعَ تَحْرِيمِهِ لِأَنّهُ لَا يَحِلّ لَهُ الْهَزْلُ بِآيَاتِ اللّهِ وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتّخِذُونَ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا: طَلّقْتُك رَاجَعْتُك طَلّقْتُك رَاجَعْتُك فَإِذَا وَقَعَ طَلَاقُ الْهَازِلِ مَعَ تَحْرِيمِهِ فَطَلَاقُ الْجَادّ أَوْلَى أَنْ يَقَعَ مَعَ تَحْرِيمِهِ. قَالُوا: وَفَرْقٌ آخَرُ بَيْنَ النّكَاحِ الْمُحَرّمِ وَالطّلَاقِ الْمُحَرّمِ أَنّ النّكَاحَ نِعْمَةٌ فَلَا تُسْتَبَاحُ بِالْمُحَرّمَاتِ وَإِزَالَتُهُ وَخُرُوجُ الْبُضْعِ عَنْ مِلْكِهِ نِقْمَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا مُحَرّمًا. قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِنّ الْفُرُوجَ يُحْتَاطُ لَهَا وَالِاحْتِيَاطُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الطّلَاقِ وَتَجْدِيدَ الرّجْعَةِ وَالْعَقْدِ. قَالُوا: وَقَدْ عَهِدْنَا النّكَاحَ لَا يُدْخَلُ فِيهِ إلّا بِالتّشْدِيدِ وَالتّأْكِيدِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْوَلِيّ وَالشّاهِدَيْنِ وَرِضَى الزّوْجَةِ الْمُعْتَبَرِ رِضَاهَا يُقَاسَ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِأَيْدِينَا إلّا قَوْلُ حَمَلَةِ الشّرْعِ كُلّهِمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا: طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ وَالطّلَاقُ نَوْعَانِ طَلَاقُ سُنّةٍ وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ وَقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ الطّلَاقُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهَانِ حَلَالٌ وَوَجْهَانِ حَرَامٌ فَهَذَا الْإِطْلَاقُ وَالتّقْسِيمُ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ عِنْدَهُمْ طَلَاقٌ حَقِيقَةً وَشُمُولُ اسْمِ الطّلَاقِ لَهُ كَشُمُولِهِ لِلطّلَاقِ الْحَلَالِ وَلَوْ كَانَ لَفْظًا مُجَرّدًا لَغْوًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَا قِيلَ طَلّقَ امْرَأَتَهُ فَإِنّ هَذَا اللّفْظَ إذَا كَانَ لَغْوًا كَانَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ فِيهِ طَلّقَ وَلَا يُقَسّمُ الطّلَاقُ- وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ- إلَيْهِ وَإِلَى الْوَاقِعِ فَإِنّ الْأَلْفَاظَ اللّاغِيَةَ الّتِي لَيْسَ لَهَا مَعَانٍ ثَابِتَةٌ لَا تَكُونُ هِيَ وَمَعَانِيهَا قِسْمًا مِنْ الْحَقِيقَةِ الثّابِتَةِ لَفْظًا فَهَذَا أَقْصَى مَا تَمَسّكَ بِهِ الْمُوقِعُونَ وَرُبّمَا ادّعَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالنّزَاعِ.
.رَدّ الْمَانِعِينَ عَلَى الْمُوقِعِينَ:
قَالَ الْمَانِعُونَ مِنْ الْوُقُوعِ الْكَلَامُ مَعَكُمْ فِي ثَلَاثِ مَقَامَاتٍ بِهَا يَسْتَبِينُ الْحَقّ فِي الْمَسْأَلَةِ. الْمَقَامُ الْأَوّلُ بُطْلَانُ مَا زَعَمْتُمْ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَأَنّهُ لَا سَبِيلَ لَكُمْ إلَى إثْبَاتِهِ الْبَتّةَ بَلْ الْعِلْمُ بِانْتِفَائِهِ مَعْلُومٌ. الْمَقَامُ الثّانِي أَنّ فَتْوَى الْجُمْهُورِ بِالْقَوْلِ لَا يَدُلّ عَلَى صِحّتِهِ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ لَيْسَ بِحُجّةٍ. الْمَقَامُ الثّالِثُ أَنّ الطّلَاقَ الْمُحَرّمَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ نُصُوصِ الطّلَاقِ الْمُطْلَقَةِ الّتِي رَتّبَ الشّارِعُ عَلَيْهَا أَحْكَامَ الطّلَاقِ فَإِنْ ثَبَتَتْ لَنَا هَذِهِ الْمَقَامَاتُ الثّلَاثُ كُنّا أَسْعَدَ بِالصّوَابِ مِنْكُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَنَقُولُ أَمّا الْمَقَامُ الْأَوّلُ فَقَدْ تَقَدّمَ مِنْ حِكَايَةِ النّزَاعِ مَا يُعْلَمُ مَعَهُ بُطْلَانُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ كَيْفَ وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ سَبِيلٌ إلَى إثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ الّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجّةُ وَتَنْقَطِعُ مَعَهُ الْمَعْذِرَةُ وَتَحْرُمُ مَعَهُ الْمُخَالَفَةُ فَإِنّ الْإِجْمَاعَ الّذِي يُوجِبُ ذَلِكَ هُوَ الْإِجْمَاعُ الْقَطْعِيّ الْمَعْلُومُ. وَأَمّا الْمَقَامُ الثّانِي: وَهُوَ أَنّ الْجُمْهُورَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَأَوْجِدُونَا فِي الْأَدِلّةِ الشّرْعِيّةِ أَنّ قَوْلَ الْجُمْهُورِ حُجّةٌ مُضَافَةٌ إلَى كِتَابِ اللّهِ وَسُنّةِ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ أُمّتِهِ. وَمَنْ تَأَمّلَ مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنْ عَهْدِ الصّحَابَةِ وَإِلَى الْآنَ وَاسْتَقْرَأَ أَحْوَالَهُمْ وَجَدَهُمْ مُجْمِعِينَ عَلَى تَسْوِيغِ خِلَافِ الْجُمْهُورِ وَوَجَدَ لِكُلّ مِنْهُمْ أَقْوَالًا عَدِيدَةً انْفَرَدَ بِهَا عَنْ الْجُمْهُورِ وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ قَطّ وَلَكِنْ مُسْتَقِلّ وَمُسْتَكْثِرٌ فَمَنْ شِئْتُمْ سَمّيْتُمُوهُ مِنْ الْأَئِمّةِ تَتَبّعُوا مَا لَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الّتِي خَالَفَ فِيهَا الْجُمْهُورَ وَلَوْ تَتَبّعْنَا ذَلِكَ وَعَدَدْنَاهُ لَطَالَ الْكِتَابُ بِهِ جِدّا وَنَحْنُ نُحِيلُكُمْ عَلَى الْكُتُبِ الْمُتَضَمّنَةِ لِمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ وَاخْتِلَافِهِمْ وَمَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِمَذَاهِبِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ يَأْخُذُ إجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ وَلَكِنْ هَذَا فِي الْمَسَائِلِ الّتِي يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ وَلَا تَدْفَعُهَا السّنّةُ الصّحِيحَةُ الصّرِيحَةُ وَأَمّا مَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ فَإِنّهُمْ كَالْمُتّفِقِينَ عَلَى إنْكَارِهِ وَرَدّهِ وَهَذَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَأَمّا الْمَقَامُ الثّالِثُ وَهُوَ دَعْوَاكُمْ دُخُولَ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ تَحْتَ نُصُوصِ الطّلَاقِ وَشُمُولَهَا لِلنّوْعَيْنِ إلَى آخِرِ كَلَامِكُمْ فَنَسْأَلُكُمْ مَا تَقُولُونَ فِيمَنْ ادّعَى دُخُولَ أَنْوَاعِ الْبَيْعِ الْمُحَرّمِ وَالنّكَاحِ الْمُحَرّمِ تَحْتَ نُصُوصِ الْبَيْعِ وَقَالَ شُمُولُ الِاسْمِ لِلصّحِيحِ مِنْ ذَلِكَ وَالْفَاسِدِ سَوَاءٌ بَلْ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعُقُودِ الْمُحَرّمَةِ إذَا ادّعَى دُخُولَهَا تَحْتَ أَلْفَاظِ الْعُقُودِ الشّرْعِيّةِ وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْمُحَرّمَةُ الْمَنْهِيّ عَنْهَا إذَا ادّعَى دُخُولَهَا تَحْتَ الْأَلْفَاظِ الشّرْعِيّةِ وَحَكَمَ لَهَا بِالصّحّةِ لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهَا هَلْ تَكُونُ دَعْوَاهُ صَحِيحَةً أَوْ بَاطِلَةً؟ فَإِنْ قُلْتُمْ صَحِيحَةٌ وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ إلَى ذَلِكَ كَانَ قَوْلًا مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالضّرُورَةِ مِنْ الدّينِ وَإِنْ قُلْتُمْ دَعْوَاهُ بَاطِلَةٌ تَرَكْتُمْ قَوْلَكُمْ وَرَجَعْتُمْ إلَى مَا قُلْنَاهُ وَإِنْ قُلْتُمْ تُقْبَلُ فِي مَوْضِعٍ وَتُرَدّ فِي مَوْضِعٍ قِيلَ لَكُمْ فَفَرّقُوا بِفُرْقَانٍ صَحِيحٍ مُطّرِدٍ مُنْعَكِسٍ مَعَكُمْ بِهِ بُرْهَانٌ مِنْ اللّهِ بَيْنَ مَا يَدْخُلُ مِنْ الْعُقُودِ الْمُحَرّمَةِ تَحْتَ أَلْفَاظِ النّصُوصِ فَيَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الصّحّةِ وَبَيْنَ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَهَا فَيَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْبُطْلَانِ وَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ ذَلِكَ فَاعْلَمُوا أَنّهُ لَيْسَ بِأَيْدِيكُمْ سِوَى الدّعْوَى الّتِي يُحْسِنُ كُلّ أَحَدٍ مُقَابَلَتَهَا بِمِثْلِهَا أَوْ الِاعْتِمَادَ عَلَى مَنْ يُحْتَجّ لِقَوْلِهِ لَا بِقَوْلِهِ وَإِذَا كُشِفَ الْغِطَاءُ عَمّا قَرّرْتُمُوهُ فِي هَذِهِ الطّرِيقِ وُجِدَ عَيْنُ مَحَلّ النّزَاعِ فَقَدْ جَعَلْتُمُوهُ مُقَدّمَةً فِي الدّلِيلِ وَذَلِكَ عَيْنُ الْمُصَادَرَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَهَلْ وَقَعَ النّزَاعُ إلّا فِي دُخُولِ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ تَحْتَ قَوْلِهِ: {وَلِلْمُطَلّقَاتِ مَتَاعٌ} وَتَحْتَ قَوْلِهِ: {وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} وَأَمْثَالَ ذَلِكَ وَهَلْ سَلّمَ لَكُمْ مُنَازِعُوكُمْ قَطّ ذَلِكَ حَتّى تَجْعَلُوهُ مُقَدّمَةً لِدَلِيلِكُمْ؟. قَالُوا: وَأَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجّةً عَلَيْكُمْ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجّةً لَكُمْ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: صَرِيحُ قَوْلِهِ فَرَدّهَا عَلَيّ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا وَقَدْ تَقَدّمَ بَيَانُ صِحّتِهِ. قَالُوا: فَهَذَا الصّرِيحُ الصّحِيحُ لَيْسَ بِأَيْدِيكُمْ مَا يُقَاوِمُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَلْ جَمِيعُ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ إمّا صَحِيحَةٌ غَيْرُ صَرِيحَةٍ وَإِمّا صَرِيحَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ كَمَا سَتَقِفُونَ عَلَيْهِ.
الثّانِي: أَنّهُ قَدْ صَحّ عَنْ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ كَالشّمْسِ مِنْ عُبَيْدِ اللّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ فِي الرّجُلِ يُطَلّقُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ لَا يُعْتَدّ بِذَلِكَ وَقَدْ تَقَدّمَ.
الثّالِثُ أَنّهُ لَوْ كَانَ صَرِيحًا فِي الِاعْتِدَادِ بِهِ لَمَا عَدَلَ بِهِ إلَى مُجَرّدِ الرّأْيِ. وَقَوْلُهُ لِلسّائِلِ أَرَأَيْتَ؟ الرّابِعُ أَنّ الْأَلْفَاظَ قَدْ اضْطَرَبَتْ عَنْ ابْنِ عُمَر فِي ذَلِكَ اضْطِرَابًا شَدِيدًا وَكُلّهَا صَحِيحَةٌ عَنْهُ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نَصّ صَرِيحٌ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي وُقُوعِ تِلْكَ الطّلْقَةِ وَالِاعْتِدَادِ بِهَا وَإِذَا تَعَارَضَتْ تِلْكَ الْأَلْفَاظُ نَظَرْنَا إلَى مَذْهَبِ ابْنِ عُمَر وَفَتْوَاهُ فَوَجَدْنَاهُ صَرِيحًا فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ وَوَجَدْنَا أَحَدَ أَلْفَاظِ حَدِيثِهِ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ فَقَدْ اجْتَمَعَ صَرِيحُ رِوَايَتِهِ وَفَتْوَاهُ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ مُضْطَرِبَةٌ كَمَا تَقَدّمَ بَيَانُهُ. وَأَمّا قَوْلُ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَمَا لِي لَا أَعْتَدّ بِهَا وَقَوْلُهُ أَرَأَيْت إنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ فَغَايَةُ هَذَا أَنْ يَكُونَ رِوَايَةً صَرِيحَةً عَنْهُ بِالْوُقُوعِ وَيَكُونَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ. وَقَوْلُكُمْ. كَيْفَ يُفْتِي بِالْوُقُوعِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ رَدّهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْتَدّ عَلَيْهِ بِهَا؟ فَلَيْسَ هَذَا بِأَوّلِ حَدِيثٍ خَالَفَهُ رَاوِيهِ وَلَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الّتِي خَالَفَهَا رَاوِيهَا أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الصّحَابِيّ وَمَنْ بَعْدَهُ عَلَى رَأْيِهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبّاسٍ حَدِيثَ بَرِيرَةَ وَأَنّ بَيْعَ الْأَمَةِ لَيْسَ بِطَلَاقِهَا وَأَفْتَى بِخِلَافِهِ فَأَخَذَ النّاسُ بِرِوَايَتِهِ وَتَرَكُوا رَأْيَهُ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ فَإِنّ الرّوَايَةَ مَعْصُومَةٌ عَنْ مَعْصُومٍ وَالرّأْيُ بِخِلَافِهَا كَيْفَ وَأَصْرَحُ الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ مُوَافَقَتُهُ لِمَا رَوَاهُ مِنْ عَدَمِ الْوُقُوعِ عَلَى أَنّ فِي هَذَا فِقْهًا دَقِيقًا إنّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ غَوْرٌ عَلَى أَقْوَالِ الصّحَابَةِ وَمَذَاهِبِهِمْ وَفَهْمِهِمْ عَنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاحْتِيَاطِهِمْ لِلْأُمّةِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي إيقَاعِ الطّلَاقِ الثّلَاثِ جُمْلَةً.
وَأَمّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فِي آخِرِهِ وَهِيَ وَاحِدَةٌ فَلَعَمْرُ اللّهِ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ اللّفْظَةُ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا قَدّمْنَا عَلَيْهَا شَيْئًا وَلَصِرْنَا إلَيْهَا بِأَوّلِ وَهْلَةٍ وَلَكِنْ لَا نَدْرِي أَقَالَهَا ابْنُ وَهْبٍ مِنْ عِنْدِهِ أَمْ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ أَمْ نَافِعٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا لَا يُتَيَقّنُ أَنّهُ مِنْ كَلَامِهِ وَيَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ وَتُرَتّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ وَيُقَالُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ بِالْوَهْمِ وَالِاحْتِمَالِ وَالظّاهِرُ أَنّهَا مِنْ قَوْلِ مَنْ دُونَ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَمُرَادُهُ بِهَا أَنّ ابْنَ عُمَرَ إنّمَا طَلّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ ثَلَاثًا أَيْ طَلّقَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرَهُ. وَأَمّا حَدِيثُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ نَافِعٍ أَنّ تَطْلِيقَةَ عَبْدِ اللّهِ حُسِبَتْ عَلَيْهِ فَهَذَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ نَافِعٍ وَلَا يُعْرَفُ مَنْ الّذِي حَسَبَهَا أَهُوَ عَبْدُ اللّهِ نَفْسُهُ أَوْ أَبُوهُ عُمَرُ أَوْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ؟ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْوَهْمِ وَالْحُسْبَانِ وَكَيْفَ يُعَارَضُ صَرِيحِ قَوْلِهِ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا بِهَذَا الْمُجْمَلِ؟ وَاللّهُ يَشْهَدُ- وَكَفَى بِاَللّهِ شَهِيدًا- أَنّا لَوْ تَيَقّنّا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ الّذِي حَسَبَهَا عَلَيْهِ لَمْ نَتَعَدّ ذَلِكَ وَلَمْ نَذْهَبْ إلَى سِوَاهُ. وَأَمّا حَدِيثُ أَنَسٍ مَنْ طَلّقَ فِي بِدْعَةٍ أَلْزَمْنَاهُ بِدْعَتَهُ فَحَدِيثٌ بَاطِلٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاَللّهِ أَنّهُ حَدِيثٌ بَاطِلٌ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الثّقَاتِ مِنْ أَصْحَابِ حَمّادِ بْنِ زَيْدٍ وَإِنّمَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيّةَ الذّارِعِ الْكَذّابِ الّذِي يَذْرَعُ وَيُفَصّلُ ثُمّ الرّاوِي لَهُ عَنْهُ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ وَقَدْ ضَعّفَهُ الْبَرْقَانِيّ وَغَيْرُهُ وَكَانَ قَدْ اُخْتُلِطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَقَالَ الدّارَقُطْنِيّ: يُخْطِئُ كَثِيرًا وَمِثْلُ هَذَا إذَا تَفَرّدَ بِحَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ حَدِيثُهُ حُجّةً. وَأَمّا إفْتَاءُ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا بِالْوُقُوعِ فَلَوْ صَحّ ذَلِكَ وَلَا يَصِحّ أَبَدًا فَإِنّ أَثَرَ عُثْمَانَ فِيهِ كَذّابٌ عَنْ مَجْهُولٍ لَا يُعْرَفُ عَيْنُهُ وَلَا حَالُهُ فَإِنّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سَمْعَانَ عَنْ رَجُلٍ وَأَثَرُ زَيْدٍ فِيهِ مَجْهُولٌ عَنْ مَجْهُولٍ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ رَجُلٍ سَمّاهُ عَنْ زَيْدٍ فَيَالِلّهِ الْعَجَبُ أَيْنَ هَاتَانِ الرّوَايَتَانِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثّقَفِيّ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ حَافِظِ الْأُمّةِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّهُ قَالَ لَا يُعْتَدّ بِهَا. فَلَوْ كَانَ هَذَا الْأَثَرُ مِنْ قِبَلِكُمْ لَصُلْتُمْ بِهِ وَجُلْتُمْ. وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ تَحْرِيمَهُ لَا يَمْنَعُ تَرَتّبَ أَثَرِهِ عَلَيْهِ كَالظّهَارِ فَيُقَالُ أَوّلًا: هَذَا قِيَاسٌ يَدْفَعُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ النّصّ وَسَائِرُ تِلْكَ الْأَدِلّةِ الّتِي هِيَ أَرْجَحُ مِنْهُ ثُمّ يُقَالُ ثَانِيًا: هَذَا مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ سَوَاءٌ مُعَارَضَةُ الْقَلْبِ بِأَنْ يُقَالَ تَحْرِيمُهُ يَمْنَعُ تَرَتّبَ أَثَرِهِ عَلَيْهِ كَالنّكَاحِ وَيُقَالُ ثَالِثًا: لَيْسَ لِلظّهَارِ جِهَتَانِ جِهَةُ حِلّ وَجِهَةُ حُرْمَةٍ بَلْ كُلّهُ حَرَامٌ فَإِنّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزَوْرٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَسِمَ إلَى حَلَالٍ جَائِزٍ وَحَرَامٍ بَاطِلٍ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَذْفِ مِنْ الْأَجْنَبِيّ وَالرّدّةِ فَإِذَا وُجِدَ لَمْ يُوجَدْ إلّا مَعَ مَفْسَدَتِهِ فَلَا يُتَصَوّرُ أَنْ يُقَالَ مِنْهُ حَلَالٌ صَحِيحٌ وَحَرَامٌ بَاطِلٌ بِخِلَافِ النّكَاحِ وَالطّلَاقِ وَالْبَيْعِ فَالظّهَارُ نَظِيرُ الْأَفْعَالِ الْمُحَرّمَةِ الّتِي إذَا وَقَعَتْ قَارَنَتْهَا مَفَاسِدُهَا فَتَرَتّبَتْ عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا وَإِلْحَاقُ الطّلَاقِ بِالنّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْعُقُودِ الْمُنْقَسِمَةِ إلَى حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَصَحِيحٍ وَبَاطِلٍ أَوْلَى. وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ النّكَاحَ عَقْدٌ يُمَلّكُ بِهِ الْبُضْعُ وَالطّلَاقُ عَقْدٌ يَخْرُجُ بِهِ فَنَعَمْ. مِنْ أَيْنَ لَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ فِي اعْتِبَارِ حُكْمِ أَحَدِهِمَا وَالْإِلْزَامِ بِهِ وَتَنْفِيذِهِ وَإِلْغَاءِ الْآخَرِ وَإِبْطَالِهِ؟. وَأَمّا زَوَالُ مِلْكِهِ عَنْ الْعَيْنِ بِالْإِتْلَافِ الْمُحَرّمِ فَذَلِكَ مِلْكٌ قَدْ زَالَ حِسّا فَأَبْعَدُ. وَأَبْعَدُ فَإِنّا صَدّقْنَاهُ ظَاهِرًا فِي إقْرَارِهِ وَأَزَلْنَا مِلْكَهُ بِالْإِقْرَارِ الْمُصَدّقِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا. وَأَمّا زَوَالُ الْإِيمَانِ بِالْكَلَامِ الّذِي هُوَ كُفْرٌ فَقَدْ تَقَدّمَ جَوّابُهُ وَأَنّهُ لَيْسَ فِي الْكُفْرِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ.
وَأَمّا طَلَاقُ الْهَازِلِ فَإِنّمَا وَقَعَ لِأَنّهُ صَادَفَ مَحَلّا وَهُوَ طُهْرٌ لَمْ يُجَامِعْ فِيهِ فَنَفَذَ وَكَوْنُهُ هَزَلَ بِهِ إرَادَةً مِنْهُ أَنْ لَا يَتَرَتّبَ أَثَرُهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِ بَلْ إلَى الشّارِعِ فَهُوَ قَدْ أَتَى بِالسّبَبِ التّامّ وَأَرَادَ أَلّا يَكُونَ سَبَبَهُ فَلَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَنْ طَلّقَ فِي غَيْرِ زَمَنِ الطّلَاقِ فَإِنّهُ لَمْ يَأْتِ بِالسّبَبِ الّذِي نَصّبَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ مُفْضِيًا إلَى وُقُوعِ الطّلَاقِ وَإِنّمَا أَتَى بِسَبَبٍ مِنْ عِنْدِهِ وَجَعَلَهُ هُوَ مُفْضِيًا إلَى حُكْمِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِ. وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنْ النّكَاحَ نِعْمَةٌ فَلَا يَكُونُ سَبَبُهُ إلّا طَاعَةً بِخِلَافِ الطّلَاقِ فَإِنّهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ النّعَمِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً فَيُقَالُ قَدْ يَكُونُ الطّلَاقُ مِنْ أَكْبَرِ النّعَمِ الّتِي يَفُكّ بِهَا الْمُطَلّقُ الْغُلّ مِنْ عُنُقِهِ وَالْقَيْدَ مِنْ رِجْلِهِ فَلَيْسَ كُلّ طَلَاقٍ نِقْمَةً بَلْ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ مَكّنَهُمْ مِنْ الْمُفَارَقَةِ بِالطّلَاقِ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَالتّخَلّصَ مِمّنْ لَا يُحِبّهَا وَلَا يُلَائِمُهَا فَلَمْ يُرَ لِلْمُتَحَابّيْنِ مِثْلُ النّكَاحِ وَلَا لِلْمُتَبَاغِضَيْنِ مِثْلُ الطّلَاقِ ثُمّ كَيْفَ يَكُونُ نِقْمَةً وَاللّهُ تَعَالَى يَقُولُ {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلّقْتُمُ النّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسّوهُنّ} [الْبَقَرَةُ 236] وَيَقُولُ {يَا أَيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} [الطّلَاقُ 1]؟. وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ الْفُرُوجَ يُحْتَاطُ لَهَا فَنَعَمْ وَهَكَذَا قُلْنَا سَوَاءٌ فَإِنّا احْتَطْنَا وَأَبْقَيْنَا الزّوْجَيْنِ عَلَى يَقِينِ النّكَاحِ حَتّى يَأْتِيَ مَا يُزِيلُهُ بِيَقِينٍ فَإِذَا أَخْطَأْنَا فَخَطَؤُنَا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ أَصَبْنَا فَصَوَابُنَا فِي جِهَتَيْنِ جِهَةِ الزّوْجِ الْأَوّلِ وَجِهَةِ الثّانِي وَأَنْتُمْ تَرْتَكِبُونَ أَمْرَيْنِ تَحْرِيمَ الْفَرَجِ عَلَى مَنْ كَانَ حَلَالًا لَهُ بِيَقِينٍ وَإِحْلَالُهُ لِغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ خَطَأً فَهُوَ خَطَأٌ مِنْ جِهَتَيْنِ فَتَبَيّنَ أَنّا أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ مِنْكُمْ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي طَلَاقِ السّكْرَانِ نَظِيرُ هَذَا الِاحْتِيَاطِ سَوَاءٌ فَقَالَ الّذِي لَا يَأْمُرُ بِالطّلَاقِ إنّمَا أَتَى خَصْلَةً وَاحِدَةً وَاَلّذِي يَأْمُرُ بِالطّلَاقِ أَتَى خَصْلَتَيْنِ حَرّمَهَا عَلَيْهِ وَأَحَلّهَا لِغَيْرِهِ فَهَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا. وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ النّكَاحَ يُدْخَلُ فِيهِ بِالْعَزِيمَةِ وَالِاحْتِيَاطِ وَيُخْرَجُ مِنْهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ قُلْنَا: وَلَكِنْ لَا يُخْرَجُ مِنْهُ إلّا بِمَا نَصّبَهُ اللّهُ سَبَبًا يُخْرَجُ بِهِ مِنْهُ وَأَذِنَ فِيهِ وَأَمّا مَا يُنَصّبُهُ الْمُؤْمِنُ عِنْدَهُ وَيَجْعَلُهُ هُوَ سَبَبًا لِلْخُرُوجِ مِنْهُ فَكَلّا. فَهَذَا مُنْتَهَى أَقْدَامِ الطّائِفَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الضّيّقَةِ الْمُعْتَرَكِ الْوَعِرَةِ الْمَسْلَكِ الّتِي يَتَجَاذَبُ أَعِنّةَ أَدِلّتِهَا الْفُرْسَانُ وَتَتَضَاءَلُ لَدَى صَوْلَتِهَا شَجَاعَةُ الشّجْعَانِ وَإِنّمَا نَبّهْنَا عَلَى مَأْخَذِهَا وَأَدِلّتِهَا لِيَعْلَمَ الْغِرّ الّذِي بِضَاعَتُهُ مِنْ الْعِلْمِ مُزْجَاةٌ أَنّ هُنَاكَ شَيْئًا آخَرَ وَرَاءَ مَا عِنْدَهُ وَأَنّهُ إذَا كَانَ مِمّنْ قَصّرَ فِي الْعِلْمِ بَاعَهُ فَضَعُفَ خَلْفَ الدّلِيلِ وَتَقَاصَرَ عَنْ جَنَى ثِمَارِهِ ذِرَاعَهُ فَلْيَعْذُرْ مَنْ شَمّرَ عَنْ سَاقِ عَزْمِهِ وَحَامَ حَوْلَ آثَارِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَحْكِيمِهَا وَالتّحَاكُمِ إلَيْهَا بِكُلّ هِمّةٍ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَاذِرٍ لِمُنَازِعِهِ فِي قُصُورِهِ وَرَغْبَتِهِ عَنْ هَذَا الشّأْنِ الْبَعِيدِ فَلْيَعْذُرْ مُنَازِعَهُ فِي رَغْبَتِهِ عَمّا ارْتَضَاهُ لِنَفْسِهِ مِنْ مَحْضِ التّقْلِيدِ وَلْيَنْظُرْ مَعَ نَفْسِهِ أَيّهُمَا هُوَ الْمَعْذُورُ وَأَيّ السّعْيَيْنِ أَحَقّ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ السّعْيَ الْمَشْكُورَ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التّكْلَانُ وَهُوَ الْمُوَفّقُ لِلصّوَابِ الْفَاتِحُ لِمَنْ أَمّ بَابَهُ طَالِبًا لِمَرْضَاتِهِ مِنْ الْخَيْرِ كُلّ بَابٍ.
-------------
فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَنْ طَلّقَ ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ:
قَدْ تَقَدّمَ حَدِيثُ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبَرَ عَنْ رَجُلٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا فَقَامَ مُغْضَبًا ثُمّ قَالَ أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ فَإِنّ ابْنَ وَهْبٍ قَدْ رَوَاهُ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْت مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ فَذَكَرَهُ وَمَخْرَمَةُ ثِقَةٌ بِلَا شَكّ وَقَدْ احْتَجّ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِحَدِيثِهِ عَنْ أَبِيهِ. وَاَلّذِينَ أَعَلّوهُ قَالُوا: لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ وَإِنّمَا هُوَ كِتَابٌ.. قَالَ أَبُو طَالِبٍ سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ مَخْرَمَةَ بْن بُكَيْرٍ؟ فَقَالَ هُوَ ثِقَةٌ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ إنّمَا هُوَ كِتَابُ مَخْرَمَةَ فَنَظَرَ فِيهِ كُلّ شَيْءٍ يَقُولُ بَلَغَنِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ فَهُوَ مِنْ كِتَابِ مَخْرَمَةَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثُمَةَ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ وَقَعَ إلَيْهِ كِتَابُ أَبِيهِ وَلَمْ يَسْمَعْهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبّاسٍ الدّورِيّ: هُوَ ضَعِيفٌ وَحَدِيثُهُ عَنْ أَبِيهِ كِتَابٌ وَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ إلّا حَدِيثًا وَاحِدًا حَدِيثَ الْوِتْرِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ خَالِهِ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ أَتَيْتُ مَخْرَمَةَ فَقُلْت: حَدّثَك أَبُوك؟ قَالَ لَمْ أُدْرِكْ أَبِي وَلَكِنْ هَذِهِ كُتُبُهُ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنّ كِتَابَ أَبِيهِ كَانَ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا مَضْبُوطًا فَلَا فَرْقَ فِي قِيَامِ الْحُجّةِ بِالْحَدِيثِ بَيْنَ مَا حَدّثَهُ بِهِ أَوْ رَآهُ فِي كِتَابِهِ بَلْ الْأَخْذُ عَنْ النّسْخَةِ أَحْوَطُ إذَا تَيَقّنَ الرّاوِي أَنّهَا نُسْخَةُ الشّيْخِ بِعَيْنِهَا وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الصّحَابَةِ وَالسّلَفِ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَبْعَثُ كُتُبَهُ إلَى الْمُلُوكِ وَتَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهَا الْحُجّةُ وَكَتَبَ كُتُبَهُ إلَى عُمّالِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَعَمِلُوا بِهَا وَاحْتَجّوا بِهَا وَدَفَعَ الصّدّيقُ كِتَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الزّكَاةِ إلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَحَمَلَهُ وَعَمِلَتْ بِهِ الْأُمّةُ وَكَذَلِكَ كِتَابُهُ إلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الصّدَقَاتِ الّذِي كَانَ عِنْدَ آلِ عَمْرٍو وَلَمْ يَزَلْ السّلَفُ وَالْخَلَفُ يَحْتَجّونَ بِكِتَابِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ وَيَقُولُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ كَتَبَ إلَيّ فُلَانٌ أَنّ فُلَانًا أَخْبَرَهُ وَلَوْ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِالْكُتُبِ لَمْ يَبْقَ بِأَيْدِي الْأُمّةِ إلّا أَيْسَرُ الْيَسِيرِ فَإِنّ الِاعْتِمَادَ إنّمَا هُوَ عَلَى النّسْخِ لَا عَلَى الْحِفْظِ وَالْحِفْظُ خَوّانٌ وَالنّسْخَةُ لَا تَخُونُ وَلَا يُحْفَظُ فِي زَمَنٍ مِنْ الْأَزْمَانِ الْمُتَقَدّمَةِ أَنّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ رَدّ الِاحْتِجَاجَ بِالْكِتَابِ وَقَالَ لَمْ يُشَافِهْنِي بِهِ الْكَاتِبُ فَلَا أَقَبْلُهُ بَلْ كُلّهُمْ الْجَوَابُ الثّانِي: أَنّ قَوْلَ مَنْ قَالَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ سَمِعَ مِنْهُ وَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ وَإِثْبَاتٌ قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سُئِلَ أَبِي عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ؟ فَقَالَ صَالِحُ الْحَدِيثِ. قَالَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ وَجَدْت فِي ظَهْرِ كِتَابِ مَالِكٍ سَأَلْت مَخْرَمَةَ عَمّا يُحَدّثُ بِهِ عَنْ أَبِيهِ سَمِعَهَا مِنْ أَبِيهِ؟ فَحَلَفَ لِي: وَرَبّ هَذِهِ الْبِنْيَةِ- يَعْنِي الْمَسْجِدَ- سَمِعْتُ مِنْ أَبِي. وَقَالَ عَلِيّ بْنُ الْمَدِينِيّ: سَمِعْتُ مَعْنَ بْنَ عِيسَى يَقُولُ مَخْرَمَةُ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِ رَبِيعَةُ أَشْيَاءَ مِنْ رَأْيِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَقَالَ عَلِيّ وَلَا أَظُنّ مَخْرَمَةَ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ كِتَابَ سُلَيْمَانَ لَعَلّهُ سَمِعَ مِنْهُ الشّيْءَ الْيَسِيرَ وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا بِالْمَدِينَةِ يُخْبِرُنِي عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ فِي شَيْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ سَمِعْت أَبِي وَمَخْرَمَةُ ثِقَةٌ. انْتَهَى. وَيَكْفِي أَنّ مَالِكًا أَخَذَ كِتَابَهُ فَنَظَرَ فِيهِ وَاحْتَجّ بِهِ فِي مُوَطّئِهِ وَكَانَ يَقُولُ حَدّثَنِي مَخْرَمَةُ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ سَأَلْت إسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ قُلْت: هَذَا الّذِي يَقُولُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: حَدّثَنِي الثّقَةُ مَنْ هُوَ؟ قَالَ مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ. وَقِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيّ كَانَ مَخْرَمَةُ مِنْ ثِقَاتِ الرّجَالِ؟ قَالَ نَعَمْ وَقَالَ ابْنُ عَدِيّ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى عَنْ مَخْرَمَةَ أَحَادِيثُ حِسَانٌ مُسْتَقِيمَةٌ وَأَرْجُو أَنّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لِلْمُطَلّقِ ثَلَاثًا: حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَك وَعَصَيْتَ رَبّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِلطّلَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَفْسِيرُ الصّحَابِيّ حُجّةٌ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: هُوَ عِنْدَنَا مَرْفُوعٌ. حَقّ التّأَمّلِ تَبَيّنَ لَهُ ذَلِكَ وَعَرَفَ أَنّ الطّلَاقَ الْمَشْرُوعَ بَعْدَ الدّخُولِ هُوَ الطّلَاقُ الّذِي يَمْلِكُ بِهِ الرّجْعَةَ وَلَمْ يَشْرَعْ اللّهُ سُبْحَانَهُ إيقَاعَ الثّلَاثِ جُمْلَةً وَاحِدَةً الْبَتّةَ قَالَ تَعَالَى: {الطّلَاقُ مَرّتَانِ} وَلَا تَعْقِلُ الْعَرَبُ فِي لُغَتِهَا وُقُوعَ الْمَرّتَيْنِ إلّا مُتَعَاقِبَتَيْنِ كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ سَبّحَ اللّهَ دُبُرَ كُلّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَحَمِدَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبّرَهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَنَظَائِرُهُ فَإِنّهُ لَا يُعْقَلُ مِنْ ذَلِكَ إلّا تَسْبِيحٌ وَتَكْبِيرٌ وَتَحْمِيدٌ مُتَوَالٍ يَتْلُو بَعْضُهُ بَعْضًا فَلَوْ قَالَ سُبْحَانَ اللّهِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَالْحَمْدُ لِلّهِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَاللّهُ أَكْبَرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ بِهَذَا اللّفْظِ لَكَانَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ فَقَطْ. وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {وَالّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ} [النّورُ 6] فَلَوْ قَالَ أَشْهَدُ بِاَللّهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ إنّي لَمِنْ الصّادِقِينَ كَانَتْ مَرّةً وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النّورُ 8] فَلَوْ قَالَتْ أَشْهَدُ بِاَللّهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ إنّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ كَانَتْ وَاحِدَةً وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ} [التّوْبَةُ 101] فَهَذَا مَرّةً بَعْدَ مَرّةٍ وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرّتَيْنِ} [الْأَحْزَابُ 31] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرّتَيْنِ فَإِنّ الْمَرّتَيْنِ هُنَا هُمَا الضّعْفَانِ وَهُمَا الْمِثْلَانِ وَهُمَا مِثْلَانِ فِي الْقَدْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الْأَحْزَابُ 30] وَقَوْلِهِ: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [الْبَقَرَةُ 265] أَيْ ضِعْفَيْ مَا يُعَذّبُ بِهِ غَيْرُهَا وَضِعْفَيْ مَا كَانَتْ تُؤْتِي وَمِنْ هَذَا قَوْلُ أَنَسٍ انْشَقّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّتَيْنِ أَيْ شَقّتَيْنِ وَفِرْقَتَيْنِ كَمَا قَالَ فِي اللّفْظِ الْآخَرِ انْشَقّ الْقَمَرُ فِلْقَتَيْنِ وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ قَطْعًا أَنّهُ إنّمَا انْشَقّ الْقَمَرُ مَرّةً وَاحِدَةً وَالْفَرْقُ مَعْلُومٌ بَيْنَ مَا يَكُونُ مَرّتَيْنِ فِي الزّمَانِ وَبَيْنَ مَا يَكُونُ مِثْلَيْنِ وَجُزْأَيْنِ وَمَرّتَيْنِ فِي الْمُضَاعَفَةِ. فَالثّانِي: يُتَصَوّرُ فِيهِ اجْتِمَاعُ الْمَرّتَيْنِ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَالْأَوّلُ لَا يُتَصَوّرُ فِيهِ ذَلِكَ. وَمِمّا يَدُلّ عَلَى أَنّ اللّهَ لَمْ يَشْرَعْ الثّلَاثَ جُمْلَةً أَنّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} إلَى أَنْ قَالَ: {وَبُعُولَتُهُنّ أَحَقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [الْبَقَرَةُ 228] فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ كُلّ طَلَاقٍ بَعْدَ الدّخُولِ فَالْمُطَلّقُ أَحَقّ فِيهِ بِالرّجْعَةِ سِوَى الثّالِثَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} إلَى قَوْلِهِ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ} فَهَذَا هُوَ الطّلَاقُ الْمَشْرُوعُ وَقَدْ ذَكَرَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَقْسَامَ الطّلَاقِ كُلّهَا فِي الْقُرْآنِ وَذَكَرَ أَحْكَامَهَا فَذَكَرَ عِدّةَ فِيهِ وَذَكَرَ الطّلْقَةَ الثّالِثَةَ وَأَنّهَا تُحَرّمُ الزّوْجَةَ عَلَى الْمُطَلّق {حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَذَكَرَ طَلَاقَ الْفِدَاءِ الّذِي هُوَ الْخُلْعُ وَسَمّاهُ فِدْيَةً وَلَمْ يَحْسِبْهُ مِنْ الثّلَاثِ كَمَا تَقَدّمَ وَذَكَرَ الطّلَاقَ الرّجْعِيّ الّذِي الْمُطَلّقُ أَحَقّ فِيهِ بِالرّجْعَةِ وَهُوَ مَا عَدَا هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثّلَاثَةِ. وَبِهَذَا احْتَجّ أَحْمَدُ وَالشّافِعِيّ وَغَيْرُهُمَا عَلَى أَنّهُ لَيْسَ فِي الشّرْعِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بَعْدَ الدّخُولِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بَائِنَةً وَأَنّهُ إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً كَانَتْ رَجْعِيّةً وَيَلْغُو وَصْفُهَا بِالْبَيْنُونَةِ وَأَنّهُ لَا يَمْلِكُ إبَانَتَهَا إلّا بِعِوَضٍ. وَأَمّا أَبُو حَنِيفَةُ فَقَالَ تَبِينُ بِذَلِكَ لِأَنّ الرّجْعَةَ حَقّ لَهُ وَقَدْ أَسْقَطَهَا وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ وَإِنْ كَانَتْ الرّجْعَةُ حَقّا لَهُ لَكِنْ نَفَقَةُ الرّجْعِيّةِ وَكُسْوَتُهَا حَقّ عَلَيْهِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ إلّا بِاخْتِيَارِهَا وَبَذْلِهَا الْعِوَضَ أَوْ سُؤَالِهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ جَوَازُ الْخُلْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَأَمّا إسْقَاطُ حَقّهَا مِنْ الْكِسْوَةِ وَالنّفَقَةِ بِغَيْرِ سُؤَالِهَا وَلَا بَذْلِهَا الْعِوَضَ فَخِلَافُ النّصّ وَالْقِيَاسِ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَاللّهُ سُبْحَانَهُ شَرَعَ الطّلَاقَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَنْفَعِهَا لِلرّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَإِنّهُمْ كَانُوا يُطَلّقُونَ فِي الْجَاهِلِيّةِ بِغَيْرِ عَدَدٍ فَيُطَلّقُ أَحَدُهُمْ الْمَرْأَةَ كُلّمَا شَاءَ وَيُرَاجِعُهَا وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِفْقٌ بِالرّجُلِ فَفِيهِ إضْرَارٌ بِالْمَرْأَةِ فَنَسَخَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِثَلَاثٍ وَقَصَرَ الزّوْجَ عَلَيْهَا وَجَعَلَهُ أَحَقّ بِالرّجْعَةِ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدّتُهَا فَإِذَا اسْتَوْفَى الْعَدَدَ الّذِي مُلّكَهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ فَكَانَ فِي هَذَا رِفْقٌ بِالرّجُلِ إذْ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ بِأَوّلِ طَلْقَةٍ وَبِالْمَرْأَةِ حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْ إلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ فَهَذَا شَرْعُهُ وَحِكْمَتُهُ وَحُدُودُهُ الّتِي حَدّهَا لِعِبَادِهِ فَلَوْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِأَوّلِ طَلْقَةٍ يُطَلّقُهَا كَانَ خِلَافَ شَرْعِهِ وَحِكْمَتِهِ وَهُوَ لَمْ يَمْلِكْ إيقَاعَ الثّلَاثِ جُمْلَةً بَلْ إنّمَا مُلّكَ وَاحِدَةً فَالزّائِدُ عَلَيْهَا غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهِ. قَالُوا: وَهَذَا كَمَا أَنّهُ لَمْ يَمْلِكْ إبَانَتَهَا بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ إذْ هُوَ خِلَافُ مَا شَرَعَهُ وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنّ اللّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْأُمّةِ طَلَاقًا بَائِنًا قَطّ إلّا فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: طَلَاقُ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا.
وَالثّانِي: الطّلْقَةُ الثّالِثَةُ وَمَا عَدَاهُ مِنْ الطّلَاقِ فَقَدْ جَعَلَ لِلزّوْجِ فِيهِ الرّجْعَةَ هَذَا مُقْتَضَى الْكِتَابِ كَمَا تَقَدّمَ تَقْرِيرُهُ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالشّافِعِيّ وَأَهْلُ الظّاهِرِ قَالُوا: لَا يَمْلِكُ إبَانَتَهَا بِدُونِ الثّلَاثِ إلّا فِي الْخَلْعِ. وَلِأَصْحَابِ مَالِكٍ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِيمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً لَا رَجْعَةَ فِيهَا:
أَحَدُهَا: أَنّهَا ثَلَاثٌ قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ لِأَنّهُ قَطَعَ حَقّهُ مِنْ الرّجْعَةِ وَهِيَ لَا تَنْقَطِعُ إلّا بِثَلَاثٍ فَجَاءَتْ الثّلَاثُ ضَرُورَةً.
الثّانِي: أَنّهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ كَمَا قَالَ هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ لِأَنّهُ يَمْلِكُ إبَانَتَهَا بِطَلْقَةٍ بِعِوَضٍ فَمَلَكَهَا بِدُونِهِ وَالْخُلْعُ عِنْدَهُ طَلَاقٌ.
الثّالِثُ أَنّهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيّةٌ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَهُوَ الّذِي يَقْتَضِيهِ الْكِتَابُ وَالسّنّةُ وَالْقِيَاسُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ.
.فصل هَلْ يَقَعُ الطّلَاقُ ثَلَاثًا فِيمَنْ قَالَهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ:
وَأَمّا الْمَسْأَلَةُ الثّانِيَةُ وَهِيَ وُقُوعُ الثّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَاخْتَلَفَ النّاسُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا: أَنّهَا تَقَعُ وَهَذَا قَوْلُ الْأَئِمّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورُ التّابِعِينَ وَكَثِيرٍ مِنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ.
الثّانِي: أَنّهَا لَا تَقَعُ بَلْ تُرَدّ لِأَنّهَا بِدْعَةٌ مُحَرّمَةٌ وَالْبِدْعَةُ مَرْدُودَةٌ لِقَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ وَهَذَا الْمَذْهَبُ حَكَاهُ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ وَحُكِيَ لِلْإِمَامِ أَحْمَد فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ هُوَ قَوْلُ الرّافِضَةِ. وَاحِدَةٌ رَجْعِيّةٌ وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ إسْحَاقَ يَقُولُ خَالَفَ السّنّةَ فَيُرَدّ إلَى السّنّةِ انْتَهَى وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيّةَ.
الرّابِعُ أَنّهُ يُفَرّقُ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا فَتَقَعُ الثّلَاثُ بِالْمَدْخُولِ بِهَا وَيَقَعُ بِغَيْرِهَا وَاحِدَةٌ وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبّاسٍ وَهُوَ مَذْهَبُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ مُحَمّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ.
.حُجَجُ مَنْ لَمْ يَعْتَدّهَا شَيْئًا:
فَأَمّا مَنْ لَمْ يُوقِعْهَا جُمْلَةً فَاحْتَجّوا بِأَنّهُ طَلَاقُ بِدْعَةٍ مُحَرّمٌ وَالْبِدْعَةُ مَرْدُودَةٌ وَقَدْ اعْتَرَفَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ بِأَنّهَا لَوْ كَانَتْ بِدْعَةٌ مُحَرّمَةٌ لَوَجَبَ أَنْ تُرَدّ وَتَبْطُلَ وَلَكِنّهُ اخْتَارَ مَذْهَبَ الشّافِعِيّ أَنّ جَمْعَ الثّلَاثِ جَائِزٌ غَيْرُ مُحَرّمٍ وَسَتَأْتِي حُجّةُ هَذَا الْقَوْلِ.
.حُجَجُ مَنْ جَعَلَهَا وَاحِدَةً:
وَأَمّا مَنْ جَعَلَهَا وَاحِدَةً فَاحْتَجّ بِالنّصّ وَالْقِيَاسِ فَأَمّا النّصّ فَمَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسَ عَنْ أَبِيهِ أَنّ أَبَا الصّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبّاسٍ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ الثّلَاثَ كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ؟ قَالَ نَعَمْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي لَفْظٍ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ الثّلَاثَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ تُرَدّ إلَى وَاحِدَةٍ؟ قَالَ نَعَمْ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ أَنّ ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ طَلّقَ عَبْدُ يَزِيدَ- أَبُو رُكَانَةَ وَإِخْوَتُهُ- أُمّ رُكَانَةَ وَنَكَحَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ فَجَاءَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ مَا يُغْنِي عَنّي إلّا كَمَا تُغْنِي هَذِهِ الشّعْرَةُ لِشَعْرَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ رَأْسِهَا فَفَرّقْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَأَخَذَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَمِيّةٌ فَدَعَا بِرُكَانَةَ وَإِخْوَتِهِ ثُمّ قَالَ لِجُلَسَائِهِ أَلَا تَرَوْنَ أَنّ فُلَانًا يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ عَبْدِ يَزِيدَ وَفُلَانًا مِنْهُ كَذَا وَكَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَبْدِ يَزِيدَ طَلّقْهَا فَفَعَلَ ثُمّ قَالَ رَاجِعِ امْرَأَتَكَ أُمّ رُكَانَةَ وَإِخْوَتِهِ فَقَالَ إنّى طَلّقْتهَا ثَلَاثًا يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ قَدْ عَلِمْتُ رَاجِعْهَا وَتَلَا: {يَا أَيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدّثَنَا سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حَدّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ قَالَ حَدّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ قَالَ طَلّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَخُو بَنِي الْمُطّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا قَالَ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَيْفَ طَلّقْتَهَا: فَقَالَ طَلّقْتهَا ثَلَاثًا فَقَالَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَارْجِعْهَا إنْ شِئْتَ؟ قَالَ فَرَاجَعَهَا فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَرَى أَنّمَا الطّلَاقُ عِنْدَ كُلّ طُهْرٍ. قَالُوا: وَأَمّا الْقِيَاسُ فَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ جَمْعَ الثّلَاثِ مُحَرّمٌ وَبِدْعَةٌ وَالْبِدْعَةُ مَرْدُودَةٌ لِأَنّهَا لَيْسَتْ عَلَى أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالُوا: وَسَائِرُ مَا تَقَدّمَ فِي بَيَانِ التّحْرِيمِ يَدُلّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهَا جُمْلَةً. قَالُوا: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا إلّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ} [النّورُ 6] وَقَوْلُهُ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ} [النّورُ 8] قَالُوا: وَكَذَلِكَ كُلّ مَا يُعْتَبَرُ لَهُ التّكْرَارُ مِنْ حَلِفٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ شَهَادَةٍ وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ فَلَوْ قَالُوا: نَحْلِفُ بِاَللّهِ خَمْسِينَ يَمِينًا: إنّ فُلَانًا قَتَلَهُ كَانَتْ يَمِينًا وَاحِدَةً. قَالُوا: وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالزّنَى كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنّ بَعْضَ الصّحَابَةِ قَالَ لِمَاعِزٍ إنْ أَقْرَرْت أَرْبَعًا رَجَمَك رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهَذَا لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْبَعُ فِيهِ مَجْمُوعَةً بِفَمٍ وَاحِدٍ.
.حُجَجُ مَنْ فَرّقَ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا:
وَأَمّا الّذِينَ فَرّقُوا بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا فَلَهُمْ حُجّتَانِ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَن طَاوُسٍ أَنّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ أَبُو الصّهْبَاءِ كَانَ كَثِيرَ السّؤَالِ لِابْنِ عَبّاسٍ قَالَ لَهُ أَمَا عَلِمْت أَنّ الرّجُلَ كَانَ إذَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ؟ فَلَمّا رَأَى عُمَرُ النّاسَ قَدْ تَتَايَعُوا فِيهَا قَالَ أَجِيزُوهُنّ عَلَيْهِمْ الْحُجّةُ الثّانِيَةُ أَنّهَا تَبِينُ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فَيُصَادِفُهَا ذِكْرُ الثّلَاثِ وَهِيَ بَائِنٌ فَتَلْغُو وَرَأَى هَؤُلَاءِ أَنّ إلْزَامَ عُمَرَ بِالثّلَاثِ هُوَ فِي حَقّ الْمَدْخُولِ بِهَا وَحَدِيثُ أَبِي الصّهْبَاءِ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. قَالُوا: فَفِي هَذَا التّفْرِيقِ مُوَافَقَةُ الْمَنْقُولِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَمُوَافَقَةُ الْقِيَاسِ وَقَالَ بِكُلّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى كَمَا حَكَاهُ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ وَلَكِنْ عَدَمُ الْوُقُوعِ جُمْلَةً هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِيّةِ وَحَكَوْهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ.
.حُجَجُ مَنْ أَوْقَعَهَا ثَلَاثًا:
قَالَ الْمُوقِعُونَ لِلثّلَاثِ الْكَلَامُ مَعَكُمْ فِي مَقَامَيْنِ أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ جَمْعِ الثّلَاثِ.
وَالثّانِي: وُقُوعُهَا جُمْلَةً وَلَوْ كَانَتْ مُحَرّمَةً. وَنَحْنُ نَتَكَلّمُ مَعَكُمْ فِي الْمَقَامَيْنِ فَأَمّا الْأَوّلُ فَقَدْ قَالَ الشّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظّاهِرِ إنّ جَمْعَ الثّلَاثِ سُنّةٌ وَاحْتَجّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلّقَهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَةُ 236] وَلَمْ يُفَرّقْ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الثّلَاثُ مَجْمُوعَةً أَوْ مُفَرّقَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ نُفَرّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللّهُ بَيْنَهُ كَمَا لَا نَجْمَعُ بَيْنَ مَا فَرّقَ اللّهُ بَيْنَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسّوهُنّ} [الْبَقَرَةُ 227] وَلَمْ يُفَرّقْ وَقَالَ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلّقْتُمُ النّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسّوهُنّ} الْآيَةُ وَلَمْ يُفَرّقْ وَقَالَ: {وَلِلْمُطَلّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [الْبَقَرَةُ 241] وَقَالَ: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسّوهُنّ} [الْأَحْزَابُ 49] وَلَمْ يُفَرّقْ. قَالُوا: وَفِي الصّحِيحَيْنِ أَنّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيّ طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِطَلَاقِهَا قَالُوا: فَلَوْ كَانَ جَمْعُ الثّلَاثِ مَعْصِيَةً لَمَا أَقَرّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يَخْلُو طَلَاقُهَا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَعَ وَهِيَ امْرَأَتُهُ أَوْ حِينَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِاللّعَانِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوّلَ فَالْحُجّةُ مِنْهُ ظَاهِرَةٌ وَإِنْ كَانَ الثّانِيَ فَلَا شَكّ أَنّهُ طَلّقَهَا وَهُوَ يَظُنّهَا امْرَأَتَهُ فَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَبَيّنَهَا لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَنّ رَجُلًا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوّجَتْ فَطَلُقَتْ فَسُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَحِلّ لِلْأَوّلِ؟ قَالَ لَا حَتّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الْأَوّلُ فَلَمْ يُنْكِرْ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى إبَاحَةِ جَمْعِ الثّلَاثِ وَعَلَى وُقُوعِهَا إذْ لَوْ لَمْ تَقَعْ لَمْ يُوَقّفْ رُجُوعَهَا إلَى الْأَوّلِ عَلَى ذَوْقِ الثّانِي عُسَيْلَتَهَا. قَالُوا: وَفِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَخْبَرَتْهُ أَنّ زَوْجَهَا أَبَا حَفْصٍ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيّ طَلّقَهَا ثَلَاثًا ثُمّ انْطَلَقَ إلَى الْيَمَنِ فَانْطَلَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي نَفَرٍ فَأَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالُوا: إنّ أَبَا حَفْصٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَهَلْ لَهَا مِنْ نَفَقَةٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ وَعَلَيْهَا الْعِدّةُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ قَالَتْ فَاطِمَةُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ كَمْ طَلّقَكِ؟ قُلْت: ثَلَاثًا فَقَالَ صَدَقَ لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ وَفِي لَفْظٍ لَهُ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ زَوْجِي طَلّقَنِي ثَلَاثًا وَإِنّي أَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيّ وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهَا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فِي الْمُطَلّقَةِ ثَلَاثًا: لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ قَالُوا: وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ فِي مُصَنّفِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْوَصّافِي عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ قَالَ طَلّقَ جَدّي امْرَأَةً لَهُ أَلْفَ تَطْلِيقَةٍ فَانْطَلَقَ أَبِي إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا اتّقَى اللّهَ جَدّك أَمّا ثَلَاثٌ فَلَهُ وَأَمّا تِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ فَعُدْوَانٌ وَظُلْمٌ إنْ شَاءَ اللّهُ عَذّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ طَلّقَ بَعْضُ آبَائِي امْرَأَتَهُ فَانْطَلَقَ بَنُوهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبَانَا طَلّقَ أُمّنَا أَلْفًا فَهَلْ لَهُ مِنْ مَخْرَجٍ؟ فَقَالَ إنّ أَبَاكُمْ لَمْ يَتّقِ اللّهَ فَيَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ عَلَى غَيْرِ السّنّةِ وَتِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ إثْمٌ فِي عُنُقِهِ قَالُوا: وَرَوَى مُحَمّدُ بْنُ شَاذَانَ عَنْ مُعَلّى بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ زُرَيْقٍ أَنّ عَطَاءَ الْخُرَاسَانِيّ حَدّثَهُمْ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّهُ طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ ثُمّ أَرَادَ أَنْ يُتْبِعَهَا بِطَلْقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ عِنْدَ الْقُرْأَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا ابْنَ عُمَرَ مَا هَكَذَا أَمَرَكَ اللّهُ أَخْطَأْت السّنّةَ... وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ كُنْت طَلّقْتهَا ثَلَاثًا أَكَانَ لِي أَنْ أَجْمَعَهَا قَالَ لَا كَانَتْ تَبِينُ وَتَكُونُ مَعْصِيَةً قَالُوا: وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: عَنْ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ أَنّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتّةَ فَأُخْبِرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَللّهِ مَا أَرَدْتَ إلّا وَاحِدَةً؟ فَقَالَ رُكَانَةُ وَاَللّهِ مَا أَرَدْتُ إلّا وَاحِدَةً فَرَدّهَا إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَطَلّقَهَا الثّانِيَةَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَالثّالِثَةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَفِي جَامِعِ التّرْمِذِيّ: عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَلِيّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ أَنّهُ طَلّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتّةَ فَأَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَرَدْتَ بِهَا؟ قَالَ وَاحِدَةً قَالَ آللّهِ قَالَ آللّهِ قَالَ هُوَ عَلَى مَا أَرَدْتَ قَالَ التّرْمِذِيّ لَا نَعْرِفُهُ إلّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَسَأَلْتُ مُحَمّدًا- يَعْنِي الْبُخَارِيّ- عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ؟ فَقَالَ فِيهِ اضْطِرَابٌ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحْلَفَهُ أَنّهُ أَرَادَ بِالْبَتّةِ وَاحِدَةً فَدَلّ عَلَى أَنّهُ لَوْ أَرَادَ بِهَا أَكْثَرَ لَوَقَعَ مَا أَرَادَهُ وَلَوْ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ لَمْ يُحَلّفْهُ. قَالُوا: وَهَذَا أَصَحّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ بَعْضِ بَنِي أَبِي رَافِعٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ طَلّقَهَا ثَلَاثًا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: لِأَنّهُمْ وَلَدُ الرّجُلِ وَأَهْلُهُ أَعْلَمُ بِهِ أَنّ رُكَانَةَ إنّمَا طَلّقَهَا الْبَتّةَ. قَالُوا: وَابْنُ جُرَيْجٍ إنّمَا رَوَاهُ عَنْ بَعْضِ بَنِي أَبِي رَافِعٍ. فَإِنْ كَانَ عُبَيْدَ اللّهِ فَهُوَ ثِقَةٌ مَعْرُوفٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ مِنْ إخْوَتِهِ فَمَجْهُولُ الْعَدَالَةِ لَا تَقُومُ بِهِ حُجّةٌ. قَالُوا: وَأَمّا طَرِيقُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَفِيهَا ابْنُ إسْحَاقَ وَالْكَلَامُ فِيهِ مَعْرُوفٌ وَقَدْ حَكَى الْخَطّابِيّ أَنّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ كَانَ يُضَعّفُ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ كُلّهَا. قَالُوا: وَأَصَحّ مَا مَعَكُمْ حَدِيثُ أَبِي الصّهْبَاءِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِمُ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَتَرَكَهُ الْبُخَارِيّ وَأَظُنّهُ تَرَكَهُ لِمُخَالَفَتِهِ سَائِرَ الرّوَايَاتِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ثُمّ سَاقَ الرّوَايَاتِ عَنْهُ بِوُقُوعِ الثّلَاثِ ثُمّ قَالَ فَهَذِهِ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَمَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ وَمُحَمّدِ بْنِ إيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ قَالَ وَرَوَيْنَاهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي عَيّاشٍ الْأَنْصَارِيّ كُلّهُمْ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ أَجَازَ الثّلَاثَ وَأَمْضَاهُنّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُظَنّ بِابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ يَحْفَظُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَيْئًا ثُمّ يُفْتِي بِخِلَافِهِ. وَقَالَ الشّافِعِيّ: فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ: إنّ الثّلَاثَ كَانَتْ تُحْسَبُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاحِدَةً يَعْنِي أَنّهُ بِأَمْرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاَلّذِي يُشْبِهُ- وَاللّهُ أَعْلَمُ- أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبّاسٍ قَدْ عَلِمَ أَنّهُ كَانَ شَيْئًا فَنُسِخَ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ فِيهَا تَأْكِيدٌ لِصِحّةِ هَذَا التّأْوِيلِ- يُرِيدُ الْبَيْهَقِيّ- مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} الْآيَةُ... وَذَلِكَ أَنّ الرّجُلَ كَانَ إذَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنْ طَلّقَهَا ثَلَاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ فَقَالَ الطّلَاقُ مَرّتَانِ قَالُوا: فَيُحْتَمَلُ أَنّ الثّلَاثَ كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً مِنْ هَذَا الْوَقْتِ بِمَعْنَى أَنّ الزّوْجَ كَانَ يَتَمَكّنُ مِنْ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَهَا كَمَا يَتَمَكّنُ مِنْ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ ثُمّ نُسِخَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إنّمَا جَاءَ فِي نَوْعٍ خَاصّ مِنْ الطّلَاقِ الثّلَاثِ وَهُوَ أَنْ يُفَرّقَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ كَأَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ وَكَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ النّاسُ عَلَى صِدْقِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ الْخِبّ وَالْخِدَاعُ فَكَانُوا يُصَدّقُونَ أَنّهُمْ أَرَادُوا بِهِ التّأْكِيدَ وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ الثّلَاثَ فَلَمّا رَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي زَمَانِهِ أُمُورًا ظَهَرَتْ وَأَحْوَالًا تَغَيّرَتْ مَنَعَ مَنْ حَمَلَ اللّفْظَ عَلَى التّكْرَارِ وَأَلْزَمَهُمْ الثّلَاثَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنّ النّاسَ كَانَتْ عَادَتُهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إيقَاعَ الْوَاحِدَةِ ثُمّ يَدَعُهَا حَتّى تَنْقَضِيَ عِدّتُهَا ثُمّ اعْتَادُوا الطّلَاقَ الثّلَاثَ جُمْلَةً وَتَتَايَعُوا فِيهِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا: كَانَ الطّلَاقُ الّذِي يُوقِعُهُ الْمُطَلّقُ الْآنَ ثَلَاثًا يُوقِعُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ الْوَاقِعِ لَا عَنْ الْمَشْرُوعِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ الّذِي كَانَ يَجْعَلُ الثّلَاثَ وَاحِدَةً وَلَا أَنّهُ أُعْلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرّ عَلَيْهِ وَلَا حُجّةَ إلّا فِيمَا قَالَهُ أَوْ فَعَلَهُ أَوْ عَلِمَ بِهِ فَأَقَرّ عَلَيْهِ وَلَا يُعْلَمُ صِحّةُ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي حَدِيثِ أَبِي الصّهْبَاءِ. قَالُوا: وَإِذَا اخْتَلَفَتْ عَلَيْنَا الْأَحَادِيثُ نَظَرْنَا إلَى مَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّهُمْ أَعْلَمُ بِسُنّتِهِ فَنَظَرْنَا فَإِذَا الثّابِتُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ الّذِي لَا يَثْبُتُ عَنْهُ غَيْرُهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ حَدّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ أَنّهُ رَوَاهُ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَجُلٌ طَلّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفًا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَطَلّقْتَ امْرَأَتَك؟ فَقَالَ إنّمَا كُنْتُ أَلْعَبُ فَعَلَاهُ عُمَرُ بِالدّرّةِ وَقَالَ إنّمَا يَكْفِيك مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثٌ وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ إنّي طَلّقْتُ امْرَأَتِي أَلْفًا فَقَالَ لَهُ عَلِيّ بَانَتْ مِنْك بِثَلَاثٍ وَاقْسِمْ سَائِرَهُنّ بَيْنَ نِسَائِك وَرَوَى وَكِيعٌ أَيْضًا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَرْقَانَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي يَحْيَى قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ فَقَالَ طَلّقْتُ امْرَأَتِي أَلْفًا فَقَالَ بَانَتْ مِنْك بِثَلَاثٍ وَرَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبّاسٍ طَلّقْتُ امْرَأَتِي أَلْفًا فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ: ثَلَاثٌ تُحَرّمُهَا عَلَيْك وَبَقِيّتُهَا عَلَيْك وِزْرٌ اتّخَذْت آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا عَبْدُ الرّزّاقِ أَيْضًا عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ إنّي طَلّقْتُ امْرَأَتِي تِسْعًا وَتِسْعِينَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: ثَلَاثٌ تَبِينُهَا مِنْك وَسَائِرُهُنّ عُدْوَان وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إيَاسٍ أَنّ ابْنَ عَبّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سُئِلُوا عَنْ الْبِكْرِ يُطَلّقُهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا فَكُلّهُمْ قَالَ لَا تَحِلّ لَهُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجَا غَيْرَهُ قَالُوا: فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا تَسْمَعُونَ قَدْ أَوْقَعُوا الثّلَاثَ جُمْلَةً وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إلّا عُمَرُ الْمُحَدّثُ الْمُلْهَمُ وَحْدَهُ لَكَفَى فَإِنّهُ لَا يُظَنّ بِهِ تَغْيِيرُ مَا شَرَعَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الطّلَاقِ الرّجْعِيّ فَيَجْعَلُهُ مُحَرّمًا وَذَلِكَ يَتَضَمّنُ تَحْرِيمَ فَرْجِ الْمَرْأَةِ عَلَى مَنْ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ وَإِبَاحَتُهُ لِمَنْ لَا تَحِلّ لَهُ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ لَمَا أَقَرّهُ عَلَيْهِ الصّحَابَةُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوَافِقُوهُ وَلَوْ كَانَ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ حُجّةٌ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الثّلَاثَ وَاحِدَةٌ لَمْ يُخَالِفْهَا. وَيُفْتِي بِغَيْرِهَا مُوَافَقَةً لِعُمَرَ وَقَدْ عُلِمَ مُخَالَفَتُهُ لَهُ فِي الْعَوْلِ وَحَجْبِ الْأُمّ بِالِاثْنَيْنِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالُوا: وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَبَعٌ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهُمْ أَعْلَمُ بِسُنّتِهِ وَشَرْعِهِ وَلَوْ كَانَ مُسْتَقِرّا مِنْ شَرِيعَتِهِ أَنّ الثّلَاثَ وَاحِدَةٌ وَتُوُفّيَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ وَيَعْلَمُهُ مَنْ بَعْدَهُمْ وَلَمْ يُحَرّمُوا الصّوَابَ فِيهِ وَيُوَفّقُ لَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ وَيَرْوِي حَبْرُ الْأُمّةِ وَفَقِيهُهَا خَبَرَ كَوْنِ الثّلَاثِ وَاحِدَةً وَيُخَالِفُهُ.
-------
حُجَجُ الْمَانِعِينَ مِنْ وُقُوعِ الثّلَاثِ:
قَالَ الْمَانِعُونَ مِنْ وُقُوعِ الثّلَاثِ التّحَاكُمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا إلَى مَنْ أَقْسَمَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَصْدَقَ قَسَمٍ وَأَبَرّهُ أَنّا لَا نُؤْمِنُ حَتّى نُحَكّمَهُ شَجَرَ بَيْنَنَا ثُمّ نَرْضَى بِحُكْمِهِ وَلَا يَلْحَقُنَا فِيهِ حَرَجٌ وَنُسَلّمُ لَهُ تَسْلِيمًا لَا إلَى غَيْرِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ اللّهُمّ إلّا أَنْ تُجْمِعَ أُمّتُهُ إجْمَاعًا مُتَيَقّنًا لَا نَشُكّ فِيهِ عَلَى حُكْمٍ فَهُوَ الْحَقّ الّذِي لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ وَيَأْبَى اللّهُ أَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمّةُ عَلَى خِلَافِ سُنّةٍ ثَابِتَةٍ عَنْهُ أَبَدًا وَنَحْنُ قَدْ أَوَجَدْنَاكُمْ مِنْ الْأَدِلّةِ مَا تَثْبُتُ الْمَسْأَلَةُ بِهِ بَلْ وَبِدُونِهِ وَنَحْنُ نُنَاظِرُكُمْ فِيمَا طَعَنْتُمْ بِهِ فِي تِلْكَ الْأَدِلّةِ وَفِيمَا عَارَضْتُمُونَا بِهِ عَلَى أَنّا لَا نَحْكُمُ عَلَى أَنْفُسِنَا إلّا نَصّا عَنْ اللّهِ أَوْ نَصّا ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ إجْمَاعًا مُتَيَقّنًا لَا شَكّ فِيهِ وَمَا عَدَا هَذَا فَعُرْضَةٌ لِنِزَاعٍ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ سَائِغَ الِاتّبَاعِ لَا لَازِمَهُ فَلْتَكُنْ هَذِهِ الْمُقَدّمَةُ سَلَفًا لَنَا عِنْدَكُمْ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ} [النّسَاءُ 59] فَقَدْ تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا سَبِيلَ إلَى رَدّهَا إلَى غَيْرِ اللّهِ وَرَسُولِهِ الْبَتّةَ وَسَيَأْتِي أَنّنَا أَحَقّ بِالصّحَابَةِ وَأَسْعَدُ بِهِمْ فِيهَا فَنَقُولُ أَمّا مَنْعُكُمْ لِتَحْرِيمِ جَمْعِ الثّلَاثِ فَلَا رَيْبَ أَنّهَا مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ وَلَكِنّ الْأَدِلّةَ الدّالّةَ عَلَى التّحْرِيمِ حُجّةٌ عَلَيْكُمْ. أَمّا قَوْلُكُمْ إنّ الْقُرْآنَ دَلّ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ فَدَعْوَى غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بَلْ بَاطِلَةٌ وَغَايَةُ مَا تَمَسّكْتُمْ بِهِ إطْلَاقُ الْقُرْآنِ لِلَفْظِ الطّلَاقِ وَذَلِكَ لَا يَعُمّ جَائِزَهُ وَمُحَرّمَهُ كَمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ طَلَاقُ الْحَائِضِ وَطَلَاقُ الْمَوْطُوءَةِ فِي طُهْرِهَا وَمَا مَثَلُكُمْ فِي ذَلِكَ إلّا كَمَثَلِ مَنْ عَارَضَ السّنّةَ الصّحِيحَةَ فِي تَحْرِيمِ الطّلَاقِ الْمُحَرّمِ بِهَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ سَوَاءٌ وَمَعْلُومٌ أَنّ الْقُرْآنَ لَمْ يَدُلّ عَلَى جَوَازِ كُلّ طَلَاقٍ حَتّى تُحَمّلُوهُ مَا لَا يُطِيقُهُ وَإِنّمَا دَلّ عَلَى أَحْكَامِ الطّلَاقِ وَالْمُبَيّنُ عَنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ بَيّنَ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَلَا رَيْبَ أَنّا أَسْعَدُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ كَمَا بَيّنّا فِي صَدْرِ الِاسْتِدْلَالِ وَأَنّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَشْرَعْ قَطّ طَلَاقًا بَائِنًا بِغَيْرِ عِوَضٍ لِمَدْخُولٍ بِهَا إلّا أَنْ يَكُونَ آخِرَ الْعِدَدِ وَهَذَا كِتَابُ اللّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَغَايَةُ مَا تَمَسّكْتُمْ بِهِ أَلْفَاظٌ مُطْلَقَةٌ قَيّدَتْهَا السّنّةُ وَبَيّنَتْ شُرُوطَهَا وَأَحْكَامَهَا. صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَمَا أَصَحّهُ مِنْ حَدِيثٍ وَمَا أَبْعَدَهُ مِنْ اسْتِدْلَالِكُمْ عَلَى جَوَازِ الطّلَاقِ الثّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي نِكَاحٍ يُقْصَدُ بَقَاؤُهُ وَدَوَامُهُ ثُمّ الْمُسْتَدِلّ بِهَذَا إنْ كَانَ مِمّنْ يَقُولُ إنّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ عَقِيبَ لِعَانِ الزّوْجِ وَحْدَهُ كَمَا يَقُولُهُ الشّافِعِيّ أَوْ عَقِيبَ لِعَانِهِمَا وَإِنْ لَمْ يُفَرّقْ الْحَاكِمُ كَمَا يَقُولُهُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْهُ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ بَاطِلٌ لِأَنّ الطّلَاقَ الثّلَاثَ حِينَئِذٍ لَغْوٌ لَمْ يَفِدْ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِمّنْ يُوَقّفُ الْفُرْقَةَ عَلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ لَمْ يَصِحّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَيْضًا لِأَنّ هَذَا النّكَاحَ لَمْ يَبْقَ سَبِيلٌ إلَى بَقَائِهِ وَدَوَامِهِ بَلْ هُوَ وَاجِبُ الْإِزَالَةِ وَمُؤَبّدُ التّحْرِيمِ فَالطّلَاقُ الثّلَاثُ مُؤَكّدٌ لِمَقْصُودِ اللّعَانِ وَمُقَرّرٌ لَهُ فَإِنّ غَايَتَهُ أَنْ يُحَرّمَهَا عَلَيْهِ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَفِرْقَةُ اللّعَانِ تُحَرّمُهَا عَلَيْهِ عَلَى الْأَبَدِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نُفُوذِ الطّلَاقِ فِي نِكَاحٍ قَدْ صَارَ مُسْتَحِقّ التّحْرِيمِ عَلَى التّأْبِيدِ نُفُوذُهُ فِي نِكَاحٍ قَائِمٍ مَطْلُوبِ الْبَقَاءِ وَالدّوَامِ وَلِهَذَا لَوْ طَلّقَهَا فِي هَذَا الْحَالِ وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ نُفَسَاءُ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا لِأَنّ هَذَا النّكَاحَ مَطْلُوبُ الْإِزَالَةِ مُؤَبّدُ التّحْرِيمِ وَمِنْ الْعَجَبِ أَنّكُمْ مُتَمَسّكُونَ بِتَقْرِيرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى هَذَا الطّلَاقِ الْمَذْكُورِ وَلَا تَتَمَسّكُونَ بِإِنْكَارِهِ وَغَضَبِهِ لِلطّلَاقِ الثّلَاثِ مِنْ غَيْرِ الْمُلَاعِنِ وَتَسْمِيَتُهُ لَعِبًا بِكِتَابِ اللّهِ كَمَا تَقَدّمَ فَكَمْ بَيْنَ هَذَا الْإِقْرَارِ وَهَذَا الْإِنْكَارِ؟ وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللّهِ قَائِلُونَ بِالْأَمْرَيْنِ مُقِرّونَ لِمَا أَقَرّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُنْكِرُونَ لِمَا أَنْكَرَهُ. وَأَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ رَجُلًا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوّجَتْ فَسُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ تَحِلّ لِلْأَوّلِ؟ قَالَ لَا حَتّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ فَهَذَا لَا نُنَازِعُكُمْ فِيهِ نَعَمْ هُوَ حُجّةٌ عَلَى مَنْ اكْتَفَى بِمُجَرّدِ عَقْدِ الثّانِي وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنّهُ طَلّقَ الثّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ بَلْ الْحَدِيثُ حُجّةٌ لَنَا فَإِنّهُ لَا يُقَالُ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَقَالَ ثَلَاثًا إلّا مَنْ فَعَلَ وَقَالَ مَرّةً بَعْدَ يُقَالُ قَذَفَهُ ثَلَاثًا وَشَتَمَهُ ثَلَاثًا وَسَلّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا. قَالُوا: وَأَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَمِنْ الْعَجَبِ الْعُجَابِ فَإِنّكُمْ خَالَفْتُمُوهُ فِيمَا هُوَ صَرِيحٌ فِيهِ لَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا صَحِيحًا وَهُوَ سُقُوطُ النّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لِلْبَائِنِ مَعَ صِحّتِهِ وَصَرَاحَتِهِ وَعَدَمِ مَا يُعَارِضُهُ مُقَاوِمًا لَهُ وَتَمَسّكْتُمْ بِهِ فِيمَا هُوَ مُجْمَلٌ بَلْ بَيَانُهُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ مِمّا يُبْطِلُ تَعَلّقَكُمْ بِهِ فَإِنّ قَوْلَهُ طَلّقَهَا ثَلَاثًا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي جَمْعِهَا بَلْ كَمَا تَقَدّمَ كَيْفَ وَفِي الصّحِيحِ فِي خَبَرِهَا نَفْسِهِ مِنْ رِوَايَةِ الزّهْرِيّ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنّ زَوْجَهَا أَرْسَلَ إلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ لَهَا مِنْ طَلَاقِهَا. وَفِي لَفْظٍ فِي الصّحِيحِ: أَنّهُ طَلّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَهُوَ سَنَدٌ صَحِيحٌ مُتّصِلٌ مِثْلُ الشّمْسِ فَكَيْفَ سَاغَ لَكُمْ تَرْكُهُ إلَى التّمَسّكِ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ وَهُوَ أَيْضًا حُجّةٌ عَلَيْكُمْ كَمَا تَقَدّمَ؟. قَالُوا: وَأَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ الّذِي رَوَاهُ عَبْدُ الرّزّاقِ فَخَبَرٌ فِي غَايَةِ السّقُوطِ لِأَنّ فِي طَرِيقِهِ يَحْيَى بْنَ الْعَلَاءِ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْوَضَافِيّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ- ضَعِيفٌ عَنْ هَالِكٍ عَنْ مَجْهُولٍ ثُمّ الّذِي يَدُلّ عَلَى كَذِبِهِ وَبُطْلَانِهِ أَنّهُ لَمْ يُعْرَفْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْآثَارِ صَحِيحِهَا وَلَا سَقِيمِهَا وَلَا مُتّصَلِهَا وَلَا مُنْقَطِعِهَا أَنّ وَالِدَ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ فَكَيْفَ بِجَدّهِ فَهَذَا مُحَالٌ بِلَا شَكّ وَأَمّا حَدِيثُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ فَأَصْلُهُ صَحِيحٌ بِلَا شَكّ لَكِنّ هَذِهِ الزّيَادَةَ وَالْوَصْلَةَ الّتِي فِيهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ طَلّقْتُهَا ثَلَاثًا أَكَانَتْ تَحِلّ لِي؟ إنّمَا جَاءَتْ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ زُرَيْقٍ وَهُوَ الشّامِيّ وَبَعْضُهُمْ يَقْلِبُهُ فَيَقُولُ زُرَيْقُ بْنُ شُعَيْبٍ كَانَ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَوْ صَحّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجّةٌ لِأَنّ قَوْلَهُ لَوْ طَلّقْتهَا ثَلَاثًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَوْ سَلّمْت ثَلَاثًا أَوْ أَقْرَرْت ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَهُ مِمّا لَا يُعْقَلُ جَمْعُهُ. وَأَمّا حَدِيثُ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرٍ الّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَنّ رُكَانَةَ طَلّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتّةَ فَأَحْلَفَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَرَادَ إلّا وَاحِدَةً فَمِنْ الْعَجَبِ تَقْدِيمُ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرٍ الْمَجْهُولِ الّذِي لَا يُعْرَفُ حَالُهُ الْبَتّةَ وَلَا يُدْرَى مَنْ هُوَ وَلَا مَا هُوَ عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ طَاوُسٍ فِي قِصّةِ أَبِي الصّهْبَاءِ وَقَدْ شَهِدَ إمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مُحَمّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيّ بِأَنّ فِيهِ اضْطِرَابًا هَكَذَا قَالَ التّرْمِذِيّ فِي الْجَامِعِ وَذَكَرَ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنّهُ مُضْطَرِبٌ. فَتَارَةً يَقُولُ طَلّقَهَا ثَلَاثًا وَتَارَةً يَقُولُ وَاحِدَةً وَتَارَةً يَقُولُ الْبَتّةَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَطُرُقُهُ كُلّهَا ضَعِيفَةٌ وَضَعّفَهُ أَيْضًا الْبُخَارِيّ حَكَاهُ الْمُنْذِرِيّ عَنْهُ. ثُمّ كَيْفَ يُقَدّمُ هَذَا الْحَدِيثُ الْمُضْطَرِبُ الْمَجْهُولُ رِوَايَةً عَلَى حَدِيثِ عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ لِجَهَالَةِ بَعْضِ بَنِي أَبِي رَافِعٍ هَذَا وَأَوْلَادُهُ تَابِعِيّونَ وَإِنْ كَانَ عُبَيْدُ اللّهِ أَشْهَرَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِمْ مُتّهَمٌ بِالْكَذِبِ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمَنْ يَقْبَلُ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ أَوْ يَقُولُ رِوَايَةُ الْعَدْلِ عَنْهُ تَعْدِيلٌ لَهُ فَهَذَا حُجّةٌ عِنْدَهُ فَأَمّا أَنْ يُضَعّفَهُ وَيُقَدّمَ عَلَيْهِ رِوَايَةَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْجَهَالَةِ أَوْ أَشَدّ فَكَلّا فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ تَتَسَاقَطَ رِوَايَتَا هَذَيْنِ الْمَجْهُولَيْنِ وَيُعْدَلُ إلَى غَيْرِهِمَا وَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ نَظَرْنَا فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ فَوَجَدْنَاهُ صَحِيحَ الْإِسْنَادِ وَقَدْ زَالَتْ عِلّةُ تَدْلِيسِ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ بِقَوْلِهِ حَدّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ وَقَدْ احْتَجّ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ فِي مَوَاضِعَ وَقَدْ صَحّحَ هُوَ وَغَيْرُهُ بِهَذَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَدّ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرّبِيعِ بِالنّكَاحِ الْأَوّلِ وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا. وَأَمّا دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ فَلَمْ تَزَلْ الْأَئِمّةُ تَحْتَجّ بِهِ وَقَدْ احْتَجّوا بِهِ فِي حَدِيثِ الْعَرَايَا فِيمَا شَكّ فِيهِ وَلَمْ يَجْزِمْ بِهِ مِنْ تَقْدِيرِهَا بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَهَا مَعَ كَوْنِهَا عَلَى خِلَافِ الْأَحَادِيثِ الّتِي نَهَى فِيهَا عَنْ بَيْعِ الرّطَبِ بِالتّمْرِ فَمَا ذَنْبُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سِوَى رِوَايَةِ مَا لَا يَقُولُونَ بِهِ وَإِنْ قَدَحْتُمْ فِي عِكْرِمَةَ- وَلَعَلّكُمْ فَاعِلُونَ- جَاءَكُمْ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ مِنْ التّنَاقُضِ فِيمَا احْتَجَجْتُمْ بِهِ أَنْتُمْ وَأَئِمّةُ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَتِهِ وَارْتِضَاءِ الْبُخَارِيّ لِإِدْخَالِ حَدِيثِهِ فِي صَحِيحِهِ.
فَصْلٌ:
وَأَمّا تِلْكَ الْمَسَالِكُ الْوَعِرَةُ الّتِي سَلَكْتُمُوهَا فِي حَدِيثِ أَبِي الصّهْبَاءِ فَلَا يَصِحّ شَيْءٌ مِنْهَا.
أَمّا الْمَسْلَكُ الْأَوّلُ وَهُوَ انْفِرَادُ مُسْلِمٍ بِرِوَايَتِهِ وَإِعْرَاضُ الْبُخَارِيّ عَنْهُ فَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْك عَارُهَا وَمَا ضَرّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ انْفِرَادُ مُسْلِمٍ بِهِ شَيْئًا ثُمّ هَلْ تَقْبَلُونَ أَنْتُمْ أَوْ أَحَدٌ مِثْلَ هَذَا فِي كُلّ حَدِيثٍ يَنْفَرِدُ بِهِ مُسْلِمٌ عَنْ الْبُخَارِيّ وَهَلْ قَالَ الْبُخَارِيّ قَطّ إنّ كُلّ حَدِيثٍ لَمْ أُدْخِلْهُ فِي كِتَابِيّ فَهُوَ بَاطِلٌ أَوْ لَيْسَ بِحُجّةٍ أَوْ ضَعِيفٌ وَكَمْ قَدْ احْتَجّ الْبُخَارِيّ بِأَحَادِيثَ خَارِجَ الصّحِيحِ لَيْسَ لَهَا ذِكْرٌ فِي صَحِيحِهِ وَكَمْ صَحّحَ مِنْ حَدِيثٍ خَارِجٍ عَنْ صَحِيحِهِ فَأَمّا مُخَالَفَةُ سَائِرِ الرّوَايَاتِ لَهُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ فَلَا رَيْبَ أَنّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رِوَايَتَيْنِ صَحِيحَتَيْنِ بِلَا شَكّ إحْدَاهُمَا: تُوَافِقُ هَذَا الْحَدِيثَ وَالْأُخْرَى: تُخَالِفُهُ فَإِنْ أَسْقَطْنَا رِوَايَةً سَلِمَ الْحَدِيثُ عَلَى أَنّهُ بِحَمْدِ اللّهِ سَالِمٌ. وَلَوْ اتّفَقَتْ الرّوَايَاتُ عَنْهُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ فَلَهُ أُسْوَةُ أَمْثَالِهِ وَلَيْسَ بِأَوّلِ حَدِيثٍ خَالَفَهُ رَاوِيهِ فَنَسْأَلُكُمْ هَلْ الْأَخْذُ بِمَا رَوَاهُ الصّحَابِيّ عِنْدَكُمْ أَوْ بِمَا رَآهُ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ الْأَخْذُ بِرِوَايَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِكُمْ بَلْ جُمْهُورُ الْأُمّةِ عَلَى هَذَا كَفَيْتُمُونَا مَئُونَةَ الْجَوَابِ. وَإِنْ قُلْتُمْ الْأَخْذُ بِرَأْيِهِ أَرَيْنَاكُمْ مِنْ تُنَاقِضُكُمْ مَا لَا حِيلَةَ لَكُمْ فِي دَفْعِهِ وَلَا سِيّمَا عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ نَفْسِهِ فَإِنّهُ رَوَى حَدِيثَ بَرِيرَةَ وَتَخْيِيرَهَا وَلَمْ يَكُنْ بَيْعُهَا طَلَاقًا وَرَأَى خِلَافَهُ وَأَنّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا فَأَخَذْتُمْ- وَأَصَبْتُمْ- بِرِوَايَتِهِ وَتَرَكْتُمْ رَأْيَهُ فَهَلّا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَقُلْتُمْ الرّوَايَةُ مَعْصُومَةٌ وَقَوْلُ الصّحَابِيّ غَيْرُ مَعْصُومٍ وَمُخَالَفَتُهُ لِمَا رَوَاهُ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَاتٍ عَدِيدَةً مِنْ نِسْيَانٍ أَوْ تَأْوِيلٍ أَوْ اعْتِقَادٍ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ فِي ظَنّهِ أَوْ اعْتِقَادٍ أَنّهُ مَنْسُوخٌ أَوْ مَخْصُوصٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ فَكَيْفَ يَسُوغُ تَرْكُ رِوَايَتِهِ مَعَ قِيَامِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ؟ وَهَلْ هَذَا إلّا تَرْكُ مَعْلُومٍ لِمَظْنُونٍ بَلْ مَجْهُولٍ؟ قَالُوا: وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حَدِيثَ التّسْبِيعِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَأَفْتَى بِخِلَافِهِ فَأَخَذْتُمْ بِرِوَايَتِهِ وَتَرَكْتُمْ فَتْوَاهُ. وَلَوْ تَتَبّعْنَا مَا أَخَذْتُمْ فِيهِ بِرِوَايَةِ الصّحَابِيّ دُونَ فَتْوَاهُ لَطَالَ. قَالُوا: وَأَمّا دَعْوَاكُمْ نَسْخَ الْحَدِيثِ فَمَوْقُوفَةٌ عَلَى ثُبُوتِ مُعَارِضٍ مُقَاوِمٍ مُتَرَاخٍ فَأَيْنَ هَذَا؟ وَأَمّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ فِي نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الطّلَاقِ الثّلَاثِ فَلَوْ صَحّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجّةٌ فَإِنّهُ إنّمَا فِيهِ أَنّ الرّجُلَ كَانَ يُطَلّقُ امْرَأَتَهُ وَيُرَاجِعُهَا بِغَيْرِ عَدَدٍ فَنُسِخَ ذَلِكَ وَقُصِرَ عَلَى ثَلَاثٍ فِيهَا تَنْقَطِعُ الرّجْعَةُ فَأَيْنَ فِي ذَلِكَ الْإِلْزَامُ بِالثّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ ثُمّ كَيْفَ يَسْتَمِرّ الْمَنْسُوخُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ لَا تَعْلَمُ بِهِ الْأَمَةُ وَهُوَ مِنْ أَهَمّ الْأُمُورِ الْمُتَعَلّقَةِ بِحِلّ الْفُرُوجِ ثُمّ كَيْفَ يَقُولُ عُمَرُ إنّ النّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ وَهَلْ لِلْأَمَةِ أَنَاةٌ فِي الْمَنْسُوخِ بِوَجْهٍ مَا؟ ثُمّ كَيْفَ يُعَارَضُ الْحَدِيثُ الصّحِيحُ بِهَذَا الّذِي فِيهِ عَلِيّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنُ وَاقِدٍ وَضَعْفُهُ مَعْلُومٌ؟. وَأَمّا حَمْلُكُمْ الْحَدِيثَ عَلَى قَوْلِ الْمُطَلّقِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ وَمَقْصُودُهُ التّأْكِيدُ بِمَا بَعْدَ الْأَوّلِ فَسِيَاقُ الْحَدِيثِ مِنْ أَوّلِهِ إلَى آخِرِهِ يَرُدّهُ فَإِنّ هَذَا الّذِي أَوّلْتُمْ الْحَدِيثَ عَلَيْهِ لَا يَتَغَيّرُ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَى عَهْدِهِ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ وَهَلُمّ جَرّا إلَى آخِرِ الدّهْرِ وَمَنْ يَنْوِيهِ فِي قَصْدِ التّأْكِيدِ لَا يُفَرّقُ بَيْنَ بَرّ وَفَاجِرٍ وَصَادِقٍ وَكَاذِبٍ بَلْ يَرُدّهُ إلَى نِيّتِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَقْبَلُهُ فِي الْحُكْمِ لَا يَقْبَلُهُ مُطْلَقًا بَرّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا. وَأَيْضًا فَإِنّ قَوْلَهُ إنّ النّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا وَتَتَايَعُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَنّا أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِم إخْبَارٌ مِنْ عُمَرَ بِأَنّ النّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا مَا جَعَلَهُمْ اللّهُ فِي فُسْحَةٍ مِنْهُ وَشَرَعَهُ مُتَرَاخِيًا بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ رَحْمَةً بِهِمْ وَرِفْقًا وَأَنَاةً لَهُمْ لِئَلّا يَنْدَمَ مُطَلّقٌ فَيَذْهَبَ حَبِيبُهُ مِنْ يَدَيْهِ مِنْ أَوّلِ وَهْلَةٍ فَيَعِزّ عَلَيْهِ تَدَارُكُهُ فَجُعِلَ لَهُ أَنَاةً وَمُهْلَةً يَسْتَعْتِبُهُ فِيهَا وَيُرْضِيهِ وَيَزُولُ مَا أَحْدَثَهُ الْعَتَبُ الدّاعِي إلَى الْفِرَاقِ وَيُرَاجِعُ كُلّ مِنْهُمَا الّذِي عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ فَاسْتَعْجَلُوا فِيمَا جُعِلَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ وَمُهْلَةٌ وَأَوْقَعُوهُ بِفَمٍ وَاحِدٍ فَرَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ يَلْزَمُهُمْ مَا الْتَزَمُوهُ عُقُوبَةً لَهُمْ فَإِذَا عَلِمَ الْمُطَلّقُ أَنّ زَوْجَتَهُ وَسَكَنَهُ تَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ أَوّلِ مَرّةٍ بِجَمْعِهِ الثّلَاثَ كَفّ عَنْهَا وَرَجَعَ إلَى الطّلَاقِ الْمَشْرُوعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَكَانَ هَذَا مِنْ تَأْدِيبِ عُمَرَ لِرَعِيّتِهِ لَمّا أَكْثَرُوا مِنْ الطّلَاقِ الثّلَاثِ كَمَا سَيَأْتِي مَزِيدُ تَقْرِيرِهِ عِنْدَ الِاعْتِذَارِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي إلْزَامِهِ بِالثّلَاثِ وَأَمّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنّ مَعْنَاهُ كَانَ وُقُوعَ الطّلَاقِ الثّلَاثِ الْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاحِدَةً فَإِنّ حَقِيقَةَ هَذَا التّأْوِيلِ كَانَ النّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُطَلّقُونَ وَاحِدَةً وَعَلَى عَهْدِ عُمَرَ صَارُوا يُطَلّقُونَ ثَلَاثًا وَالتّأْوِيلُ إذَا وَصَلَ إلَى هَذَا الْحَدّ كَانَ مِنْ بَابِ الْإِلْغَازِ وَالتّحْرِيفِ لَا مِنْ بَابِ بَيَانِ الْمُرَادِ وَلَا يَصِحّ ذَلِكَ بِوَجْهٍ مَا فَإِنّ النّاسَ مَا زَالُوا يُطَلّقُونَ وَاحِدَةً وَثَلَاثًا وَقَدْ طَلّقَ رِجَالٌ نِسَاءَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثًا فَمِنْهُمْ مَنْ رَدّهَا إلَى وَاحِدَةٍ كَمَا فِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَغَضِبَ وَجَعَلَهُ مُتَلَاعِبًا بِكِتَابِ اللّهِ وَلَمْ يُعْرَفْ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ مَنْ أَقَرّهُ لِتَأْكِيدِ التّحْرِيمِ الّذِي أَوْجَبَهُ اللّعَانُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْزَمَهُ بِالثّلَاثِ لِكَوْنِ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الطّلَاقِ آخِرَ الثّلَاثِ فَلَا يَصِحّ أَنْ يُقَالَ إنّ النّاسَ مَا زَالُوا يُطَلّقُونَ وَاحِدَةً إلَى أَثْنَاءِ خِلَافَةِ عُمَرَ فَطَلّقُوا ثَلَاثًا وَلَا يَصِحّ أَنْ يُقَالَ إنّهُمْ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَنُمْضِيهِ عَلَيْهِمْ وَلَا يُلَائِمُ هَذَا الْكَلَامُ الْفَرْقَ بَيْنَ عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ عَهْدِهِ بِوَجْهٍ مَا فَإِنّهُ مَاضٍ مِنْكُمْ عَلَى عَهْدِهِ وَبَعْدَ عَهْدِهِ. ثُمّ إنّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ الصّحِيحَةِ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّهُ مَنْ طَلّقَ ثَلَاثًا جُعِلَتْ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. وَفِي لَفْظٍ أَمَا عَلِمْتَ أَنّ الرّجُلَ كَانَ إذَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بَلَى كَانَ الرّجُلُ إذَا طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ فَلَمّا رَأَى النّاسَ- يَعْنِي عُمَرَ- قَدْ تَتَايَعُوا فِيهَا قَالَ أَجِيزُوهُنّ عَلَيْهِم جَعَلَ الْأَدِلّةَ تَبَعًا لِلْمَذْهَبِ فَاعْتَقَدَ ثُمّ اسْتَدَلّ. وَأَمّا مَنْ جَعَلَ الْمَذْهَبَ تَبَعًا لِلدّلِيلِ وَاسْتَدَلّ ثُمّ اعْتَقَدَ لَمْ يُمْكِنْهُ هَذَا الْعَمَلُ. وَأَمّا قَوْلُ مَنْ قَالَ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ هُوَ الّذِي يَجْعَلُ ذَلِكَ وَلَا أَنّهُ عَلِمَ بِهِ وَأَقَرّهُ عَلَيْهِ فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ سُبْحَانَك هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ أَنْ يَسْتَمِرّ هَذَا الْجَعْلُ الْحَرَامُ الْمُتَضَمّنُ لِتَغْيِيرِ شَرْعِ اللّهِ وَدِينِهِ وَإِبَاحَةُ الْفَرْجِ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَتَحْرِيمُهُ عَلَى مَنْ هُوَ عَلَيْهِ حَلَالٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ خَيْرِ الْخَلْقِ وَهُمْ يَفْعَلُونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَهُ وَلَا يَعْلَمُهُ هُوَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَهُوَ يُقِرّهُمْ عَلَيْهِ فَهَبْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ وَكَانَ الصّحَابَةُ يَعْلَمُونَهُ وَيُبَدّلُونَ دِينَهُ وَشَرْعَهُ وَاللّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يُوحِيهِ إلَى رَسُولِهِ وَلَا يُعْلِمُهُ بِهِ ثُمّ يَتَوَفّى اللّهُ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَسْتَمِرّ هَذَا الضّلَالُ الْعَظِيمُ وَالْخَطَأُ الْمُبِينُ عِنْدَكُمْ مُدّةَ خِلَافَةِ الصّدّيقِ كُلّهَا يُعْمَلُ بِهِ وَلَا يُغَيّرُ إلَى أَنْ فَارَقَ الصّدّيقُ الدّنْيَا وَاسْتَمَرّ الْخَطَأُ وَالضّلَالُ الْمُرَكّبُ صَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ حَتّى رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ أَنْ يُلْزِمَ النّاسَ بِالصّوَابِ فَهَلْ فِي الْجَهْلِ بِالصّحَابَةِ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي عَهْدِ نَبِيّهِمْ وَخُلَفَائِهِ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا وَتَاللّهِ لَوْ كَانَ جَعْلُ الثّلَاثِ وَاحِدَةً خَطَأً مَحْضًا لَكَانَ أَسْهَلَ مِنْ هَذَا الْخَطَأِ الّذِي ارْتَكَبْتُمُوهُ وَالتّأْوِيلِ الّذِي تَأَوّلْتُمُوهُ وَلَوْ تَرَكْتُمْ الْمَسْأَلَةَ بِهَيْئَتِهَا لَكَانَ أَقْوَى لِشَأْنِهَا مِنْ هَذِهِ الْأَدِلّةِ وَالْأَجْوِبَةِ. قَالُوا: وَلَيْسَ التّحَاكُمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى مُقَلّدٍ مُتَعَصّبٍ وَلَا هَيّابٍ لِلْجُمْهُورِ وَلَا مُسْتَوْحِشٍ مِنْ التّفَرّدِ إذَا كَانَ الصّوَابُ فِي جَانِبِهِ وَإِنّمَا بِنَيْلِهِ ذِرَاعُهُ وَفَرّقَ بَيْنَ الشّبْهَةِ وَالدّلِيلِ وَتَلَقّى الْأَحْكَامَ مِنْ نَفْسِ مِشْكَاةِ الرّسُولِ وَعَرَفَ الْمَرَاتِبَ وَقَامَ فِيهَا بِالْوَاجِبِ وَبَاشَرَ قَلْبُهُ أَسْرَارَ الشّرِيعَةِ وَحِكَمَهَا الْبَاهِرَةَ وَمَا تَضَمّنَتْهُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْبَاطِنَةِ وَالظّاهِرَةِ وَخَاضَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَضَايِقِ لُجَجَهَا وَاسْتَوْفَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ حُجَجَهَا وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التّكْلَانُ. قَالُوا: وَأَمّا قَوْلُكُمْ إذَا اخْتَلَفَتْ عَلَيْنَا الْأَحَادِيثُ نَظَرْنَا فِيمَا عَلَيْهِ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ فَنَعَمْ وَاَللّهِ وَحَيّهَلَا بِيَرَكِ الْإِسْلَامِ وَعِصَابَةِ الْإِيمَانِ. فَلَا تَطَلّبْ لِي الْأَعْوَاضَ بَعْدَهُم ** فَإِنّ قَلْبِي لَا يَرْضَى بِغَيْرِهِمْ
وَلَكِنْ لَا يَلِيقُ بِكُمْ أَنْ تَدْعُونَا إلَى شَيْءٍ وَتَكُونُوا أَوّلَ نَافِرٍ عَنْهُ وَمُخَالِفٍ لَهُ فَقَدْ تُوُفّيَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ أَكْثَرِ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ عَيْنٍ كُلّهُمْ قَدْ رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ فَهَلْ صَحّ لَكُمْ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلّهِمْ أَوْ عُشْرِهِمْ أَوْ عُشْرِ عُشْرِهِمْ أَوْ عُشْرِ عُشْرِ عُشْرِهِمْ الْقَوْلُ بِلُزُومِ الثّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ؟ هَذَا وَلَوْ جَهَدْتُمْ كُلّ الْجَهْدِ لَمْ تُطِيقُوا نَقْلَهُ عَنْ عِشْرِينَ نَفْسًا مِنْهُمْ أَبَدًا مَعَ اخْتِلَافٍ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَدَ صَحّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ الْقَوْلَانِ وَصَحّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ الْقَوْلُ بِاللّزُومِ وَصَحّ عَنْهُ التّوَقّفُ وَلَوْ كَاثَرْنَاكُمْ بِالصّحَابَةِ الّذِينَ كَانَ الثّلَاثُ عَلَى عَهْدِهِمْ وَاحِدَةً لَكَانُوا أَضْعَافَ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ وَنَحْنُ نُكَاثِرُكُمْ بِكُلّ صَحَابِيّ مَاتَ إلَى صَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَيَكْفِينَا مُقَدّمُهُمْ وَخَيْرُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الصّحَابَةِ عَلَى عَهْدِهِ بَلْ لَوْ شِئْنَا لَقُلْنَا وَلَصَدَقْنَا: إنّ هَذَا كَانَ إجْمَاعًا قَدِيمًا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ عَلَى عَهْدِ الصّدّيقِ اثْنَانِ وَلَكِنْ لَا يَنْقَرِضُ عَصْرُ الْمُجْمِعِينَ حَتّى حَدَثَ الِاخْتِلَافُ فَلَمْ يَسْتَقِرّ الْإِجْمَاعُ الْأَوّلُ حَتّى صَارَ الصّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاسْتَمَرّ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأُمّةِ فِي ذَلِكَ إلَى الْيَوْمِ ثُمّ نَقُولُ لَمْ يُخَالِفْ عُمَرُ إجْمَاعَ مَنْ تَقَدّمَهُ بَلْ رَأَى إلْزَامَهُمْ وَتَتَايَعُوا فِيهِ وَلَا رَيْبَ أَنّ هَذَا سَائِغٌ لِلْأَئِمّةِ أَنْ يُلْزِمُوا النّاسَ بِمَا ضَيّقُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَقْبَلُوا فِيهِ رُخْصَةَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَتَسْهِيلَهُ بَلْ اخْتَارُوا الشّدّةَ وَالْعُسْرَ فَكَيْفَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَمَالِ نَظَرِهِ لِلْأُمّةِ وَتَأْدِيبِهِ لَهُمْ وَلَكِنّ الْعُقُوبَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ وَالتّمَكّنِ مِنْ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِ الْفِعْلِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ وَخَفَائِهِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ إنّ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّمَا هُوَ رَأْيٌ رَآهُ مَصْلَحَةً لِلْأُمّةِ يَكُفّهُمْ بَهْ عَنْ التّسَارُعِ إلَى إيقَاعِ الثّلَاثِ وَلِهَذَا قَالَ فَلَوْ أَنّا أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ فَأَجِيزُوهُنّ عَلَيْهِمْ أَفَلَا يُرَى أَنّ هَذَا رَأْيٌ مِنْهُ رَآهُ لِلْمَصْلَحَةِ لَا إخْبَارٌ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمّا عَلِمَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ تِلْكَ الْأَنَاةَ وَالرّخْصَةَ نِعْمَةٌ مِنْ اللّهِ عَلَى الْمُطَلّقِ وَرَحْمَةٌ بِهِ وَإِحْسَانٌ إلَيْهِ وَأَنّهُ قَابَلَهَا بِضِدّهَا وَلَمْ يَقْبَلْ رُخْصَةَ اللّهِ وَمَا جَعَلَهُ لَهُ مِنْ الْأَنَاةِ عَاقَبَهُ بِأَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَأَلْزَمَهُ مَا أَلْزَمَهُ مِنْ الشّدّةِ وَالِاسْتِعْجَالِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوَاعِدِ الشّرِيعَةِ بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِحِكْمَةِ اللّهِ فِي خَلْقِهِ قَدَرًا وَشَرْعًا فَإِنّ النّاسَ إذَا تَعَدّوْا حُدُودَهُ وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَهَا ضَيّقَ عَلَيْهِمْ مَا جَعَلَهُ لِمَنْ اتّقَاهُ مِنْ الْمَخْرَجِ وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَنْ قَالَ مِنْ الصّحَابَةِ لِلْمُطَلّقِ ثَلَاثًا: إنّك لَوْ اتّقَيْتَ اللّهَ لَجَعَلَ لَك مَخْرَجًا كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبّاسٍ. فَهَذَا نَظَرُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الصّحَابَةِ لَا أَنّهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ غَيّرَ أَحْكَامَ اللّهِ وَجَعَلَ حَلَالَهَا حَرَامًا فَهَذَا غَايَةُ التّوْفِيقِ بَيْنَ النّصُوصِ وَفِعْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ مَعَهُ وَأَنْتُمْ لَمْ يُمْكِنْكُمْ ذَلِكَ إلّا بِإِلْغَاءِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَهَذَا نِهَايَةُ أَقْدَامِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الضّنْكِ وَالْمُعْتَرَكِ الصّعْبِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.
-----------------
.حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعَبْدِ يُطَلّقُ زَوْجَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمّ يُعْتَقُ بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ تَحِلّ لَهُ بِدُونِ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ؟
مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْحَسَنِ مَوْلَى بَنِي نَوْفَلٍ أَنّهُ اسْتَفْتَى ابْنَ عَبّاسٍ فِي مَمْلُوكٍ كَانَتْ تَحْتَهُ مَمْلُوكَةٌ فَطَلّقَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمّ عُتِقَا بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَخْطُبَهَا؟ قَالَ نَعَمْ قَضَى بِذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم. وَفِي لَفْظٍ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ بَقِيَتْ لَك وَاحِدَةٌ قَضَى بِهِ رَسُولُ اللّه. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرّزّاقِ أَنّ ابْنَ الْمُبَارَكِ قَالَ لِمَعْمَرٍ مَنْ أَبُو حَسَنٍ هَذَا؟ لَقَدْ تَحَمّلَ صَخْرَةً عَظِيمَةً انْتَهَى. قَالَ الْمُنْذِرِيّ وَأَبُو حَسَنٍ هَذَا قَدْ ذُكِرَ بِخَيْرٍ وَصَلَاحٍ وَقَدْ وَثّقَهُ أَبُو زَرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ الرّازِيَانِ غَيْرَ أَنّ الرّاوِيَ عَنْهُ عُمَرُ بْنُ مُعَتّبٍ وَقَدْ قَالَ عَلِيّ بْنُ الْمَدِينِيّ هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَقَالَ النّسَائِيّ لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَإِذَا عَتَقَ الْعَبْدُ وَالزّوْجَةُ فِي حِبَالِهِ مَلَكَ تَمَامَ الثّلَاثِ وَإِنْ عَتَقَ وَقَدْ طَلّقَهَا اثْنَتَيْنِ فَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ أَحَدُهَا: أَنّهَا لَا تَحِلّ لَهُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرُهُ حُرّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً وَهَذَا قَوْلُ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنّ الطّلَاقَ بِالرّجَالِ وَأَنّ الْعَبْدَ إنّمَا يَمْلِكُ طَلْقَتَيْنِ وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ حُرّةً.
وَالثّانِي: أَنّ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا عَقْدًا مُسْتَأْنَفًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ كَمَا دَلّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ مُعَتّبٍ هَذَا وَهَذَا إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ ابْنِ عَبّاسٍ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلشّافِعِيّةِ وَلِهَذَا الْقَوْلِ فِقْهٌ دَقِيقٌ فَإِنّهَا إنّمَا حَرّمَتْهَا عَلَيْهِ التّطْلِيقَتَانِ لِنَقْصِهِ بِالرّقّ فَإِذَا عُتِقَ وَهِيَ فِي الْعِدّةِ زَالَ النّقْصُ وَوُجِدَ سَبَبُ مِلْكِ الثّلَاثِ وَآثَارُ النّكَاحِ بَاقِيَةٌ فَمَلَكَ عَلَيْهَا تَمَامَ الثّلَاثِ وَلَهُ رَجْعَتُهَا وَإِنْ عُتِقَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدّتِهَا بَانَتْ مِنْهُ وَحَلّتْ لَهُ بِدُونِ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ فَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ بِبَعِيدٍ فِي الْقِيَاسِ.
وَالثّالِثُ أَنّ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي عِدّتِهَا وَأَنْ يَنْكِحَهَا بَعْدَهَا بِدُونِ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ وَلَوْ لَمْ يُعْتَقْ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الظّاهِرِ جَمِيعِهِمْ فَإِنّ عِنْدَهُمْ أَنّ الْعَبْدَ وَالْحُرّ فِي الطّلَاقِ سَوَاءٌ. وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّ عَبْدًا لَهُ طَلّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ فَأَمَرَهُ ابْنُ عَبّاسٍ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَأَبَى فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ هِيَ لَك فَاسْتَحِلّهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَالْقَوْلُ الرّابِعُ أَنّ زَوْجَتَهُ إنْ كَانَتْ حُرّةً مَلَكَ عَلَيْهَا تَمَامَ الثّلَاثِ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَهَذَا مَوْضِعٌ اخْتَلَفَ فِيهِ السّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنّ طَلَاقَ الْعَبْدِ وَالْحُرّ سَوَاءٌ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الظّاهِرِ جَمِيعِهِمْ حَكَاهُ عَنْهُمْ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ وَاحْتَجّوا بِعُمُومِ النّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الطّلَاقِ وَإِطْلَاقِهَا وَعَدَمِ تَفْرِيقِهَا بَيْنَ حُرّ وَعَبْدٍ وَلَمْ تُجْمِعْ الْأُمّةُ عَلَى التّفْرِيقِ فَقَدْ صَحّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ أَفْتَى غُلَامًا لَهُ بِرَجْعَةِ زَوْجَتِهِ بَعْدَ طُلَقَتَيْنِ وَكَانَتْ أَمَةً. وَفِي هَذَا النّقْلِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ نَظَرٌ فَإِنّ عَبْدَ الرّزّاقِ رَوَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنّ أَبَا مَعْبَدٍ أَخْبَرَهُ أَنّ عَبْدًا كَانَ لِابْنِ عَبّاسٍ وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ جَارِيَةٌ لِابْنِ عَبّاسٍ فَطَلّقَهَا فَبَتّهَا فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ لَا طَلَاقَ لَك فَارْجِعْهَا. قَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ أَنّ الْعَبْدَ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لَا تَرْجِعْ إلَيْهَا وَإِنْ ضُرِبَ رَأْسُكَ.
فَمَأْخَذُ هَذِهِ الْفَتْوَى أَنّ طَلَاقَ الْعَبْدِ بِيَدِ سَيّدِهِ كَمَا أَنّ نِكَاحَهُ بِيَدِهِ كَمَا رَوَى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ عَنْ الثّوْرِيّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزْرِيّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ لَيْسَ طَلَاقُ الْعَبْدِ وَلَا فُرْقَتُهُ بِشَيْءٍ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ فِي الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ سَيّدُهُمَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيُفَرّقُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الشّعْثَاءِ وَقَالَ الشّعْبِيّ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَا يَرَوْنَ لِلْعَبْدِ طَلَاقًا إلّا بِإِذْنِ سَيّدِهِ فَهَذَا مَأْخَذُ ابْنِ عَبّاسٍ لَا أَنّهُ يَرَى طَلَاقَ الْعَبْدِ ثَلَاثًا إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ أَمَةٌ وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ الصّحَابَةِ قَالَ بِذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الثّانِي: أَنّ أَيّ الزّوْجَيْنِ رُقّ كَانَ الطّلَاقُ بِسَبَبِ رِقّهِ اثْنَتَيْنِ كَمَا رَوَى حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ الْحُرّ يُطَلّقُ الْأَمَةَ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَعْتَدّ بِحَيْضَتَيْنِ وَالْعَبْدُ يُطَلّقُ الْحُرّةَ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَعْتَدّ ثَلَاثَ حِيَضٍ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عُثْمَانُ الْبَتّيّ. وَالْقَوْلُ الثّالِثُ أَنّ الطّلَاقَ بِالرّجَالِ فَيَمْلِكُ الْحُرّ ثَلَاثًا. وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَمَةً وَالْعَبْدُ ثِنْتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ حُرّةً وَهَذَا قَوْلُ الشّافِعِيّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِ هَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَائِشَةَ وَأُمّ سَلَمَةَ أُمّيْ الْمُؤْمِنِينَ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ وَهَذَا مَذْهَبُ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَأَبِي سَلَمَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةَ وَأَبِي الزّنَادِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَابْنِ الْمُسَيّبِ وَعَطَاءٍ. بِالنّسَاءِ كَالْعِدّةِ كَمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوّارٍ عَنْ الشّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. السّنّةُ الطّلَاقُ وَالْعِدّةُ بِالنّسَاءِ وَرَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ: عَنْ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى وَغَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ عِيسَى عَنْ الشّعْبِيّ عَنْ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ صَحَابَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالُوا: الطّلَاقُ وَالْعِدّةُ بِالْمَرْأَة هَذَا لَفْظُهُ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَقَتَادَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشّعْبِيّ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالثّوْرِيّ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ قِيلَ قَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ مَسْعُودٍ حَدّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَقُرْؤُهَا حَيْضَتَان وَرَوَى زَكَرِيّا بْنُ يَحْيَى السّاجِيّ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ الْأَحْمَسِيّ حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبِيبٍ الْمُسْلِيّ حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عِيسَى عَنْ عَطِيّةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ: حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ كَتَبَ إلَيّ عَبْدُ اللّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ سَمْعَانَ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْأَنْصَارِيّ أَخْبَرَهُ عَنْ نَافِعٍ عَن أُمّ سَلَمَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَنّ غُلَامًا لَهَا طَلّقَ امْرَأَةً لَهُ حُرّةً تَطْلِيقَتَيْنِ فَاسْتَفْتَتْ أُمّ سَلَمَةَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَقَدْ تَقَدّمَ حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ مُعَتّبٍ عَنْ أَبِي حَسَنٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَيْرُ هَذِهِ الْآثَارِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى عُجَرِهَا وَبُجَرِهَا. أَمّا الْأَوّلُ فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هُوَ حَدِيثٌ مَجْهُولٌ وَقَالَ التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلّا مِنْ حَدِيثِ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ وَمُظَاهِرٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ فِي الْعِلْمِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي أَطْرَافِهِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ أَبِيهِ فَأَتَاهُ رَسُولُ الْأَمِيرِ فَأَخْبَرَهُ أَنّهُ سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمّدٍ وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَا هَذَا وَقَالَا لَهُ إنّ هَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللّهِ وَلَا سُنّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَكِنْ عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ. قَالَ الْحَافِظُ فَدَلّ عَلَى أَنّ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ النّبِيلُ: مُظَاهِرُ بْنُ أَسْلَمَ ضَعِيفٌ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ مَعَ أَنّهُ لَا يُعْرَفُ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرّازِيّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَقُلْنَا بِهِ إلّا أَنّا لَا نُثْبِتُ حَدِيثًا يَرْوِيهِ مَنْ نَجْهَلُ عَدَالَتَهُ. وَأَمّا الْأَثَرُ الثّانِي: فَفِيهِ عُمَرُ بْنُ شَبِيبٍ الْمُسْلِيّ ضَعِيفٌ وَفِيهِ عَطِيّةٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَأَمّا الْأَثَرُ الثّالِثُ فَفِيهِ ابْنُ سَمْعَانَ الْكَذّابُ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ مَجْهُولٌ. وَاَلّذِي سَلِمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآثَارُ عَنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَالْقِيَاسُ. أَمّا الْآثَارُ فَهِيَ مُتَعَارِضَةٌ كَمَا تَقَدّمَ فَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ بَقِيَ الْقِيَاسُ وَتَجَاذَبَهُ طَرَفَانِ طَرَفُ الْمُطَلّقِ وَطَرَفُ الْمُطَلّقَةِ. فَمَنْ رَاعَى طَرَفَ الْمُطَلّقِ قَالَ هُوَ الّذِي يَمْلِكُ الطّلَاقَ وَهُوَ بِيَدِهِ فَيَتَنَصّفُ بِرِقّهِ كَمَا يَتَنَصّفُ نِصَابُ الْمَنْكُوحَاتِ بِرِقّهِ وَمَنْ رَاعَى طَرَفَ الْمُطَلّقَةِ قَالَ الطّلَاقُ يَقَعُ عَلَيْهَا وَتَلْزَمُهَا الْعِدّةُ وَالتّحْرِيمُ وَتَوَابِعُهَا فَتَنَصّفَ بِرِقّهَا كَالْعِدّةِ وَمَنْ نَصّفَ بِرِقّهَا كَالْعِدّةِ وَمَنْ نَصّفَ بِرِقّ أَيّ الزّوْجَيْنِ كَانَ رَاعَى الْأَمْرَيْنِ وَأَعْمَلَ الشّبَهَيْنِ وَمَنْ كَمّلَهُ وَجَعَلَهُ ثَلَاثًا رَأَى أَنّ الْآثَارَ لَمْ تَثْبُتْ وَالْمَنْقُولُ عَنْ الصّحَابَةِ مُتَعَارِضٌ وَالْقِيَاسُ كَذَلِكَ فَلَمْ يَتَعَلّقْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَتَمَسّكَ بِإِطْلَاقِ النّصُوصِ الدّالّةِ عَلَى أَنّ الطّلَاقَ الرّجْعِيّ طَلْقَتَانِ وَلَمْ يُفَرّقْ اللّهُ بَيْنَ حُرّ وَعَبْدٍ وَلَا بَيْنَ حُرّةٍ وَأَمَةٍ {وَمَا كَانَ رَبّكَ نَسِيّا} قَالُوا: وَالْحِكْمَةُ الّتِي لِأَجْلِهَا جُعِلَ الطّلَاقُ الرّجْعِيّ اثْنَتَيْنِ فِي الْحُرّ وَالْعَبْدِ سَوَاءٌ قَالُوا: وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ أَرْبَعًا كَالْحُرّ لِأَنّ حَاجَتَهُ إلَى ذَلِكَ كَحَاجَةِ الْحُرّ وَقَالَ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدُ أَجَلُهُ فِي الْإِيلَاءِ كَأَجَلِ الْحُرّ لِأَنّ ضَرَرَ الزّوْجَةِ فِي الصّورَتَيْنِ سَوَاءٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنّ طَلَاقَهُ وَطَلَاقَ الْحُرّ سَوَاءٌ إذَا كَانَتْ امْرَأَتَاهُمَا حُرّتَيْنِ إعْمَالًا لِإِطْلَاقِ نُصُوصِ الطّلَاقِ وَعُمُومِهَا لِلْحُرّ وَالْعَبْدِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالنّاسُ مَعَهُ صِيَامُهُ فِي الْكَفّارَاتِ كُلّهَا وَصِيَامُ الْحُرّ سَوَاءٌ وَحَدّهُ فِي السّرِقَةِ وَالشّرَابِ وَحَدّ الْحُرّ سَوَاءٌ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآثَارُ أَوْ بَعْضُهَا ثَابِتًا لَمَا سَبَقْتُمُونَا إلَيْهِ وَلَا غَلَبْتُمُونَا عَلَيْهِ وَلَوْ اتّفَقْت آثَارُ الصّحَابَةِ لَمْ نَعْدُهَا إلَى غَيْرِهَا فَإِنّ الْحَقّ لَا يَعْدُوهُمْ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.
.حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنّ الطّلَاقَ بِيَدِ الزّوْجِ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ:
قَالَ اللّهُ تَعَالَى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ} وَقَالَ: {وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ} [الْبَقَرَةُ 231] فَجَعَلَ الطّلَاقَ لِمَنْ نَكَحَ لِأَنّ لَهُ الْإِمْسَاكَ وَهُوَ الرّجْعَةُ وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ سَيّدِي زَوّجَنِي أَمَتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا. قَالَ فَصَعِدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يُزَوّجُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ ثُمّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرّقَ بَيْنَهُمَا إنّمَا الطّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسّاق وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ طَلَاقُ الْعَبْدِ بِيَدِ سَيّدِهِ إنْ طَلّقَ جَازَ وَإِنْ فَرّقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ إذَا كَانَا لَهُ جَمِيعًا فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَهُ وَالْأَمَةُ لِغَيْرِهِ طَلّقَ السّيّدُ أَيْضًا إنْ شَاءَ وَرَوَى الثّوْرِيّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ لَيْسَ طَلَاقُ الْعَبْدِ وَلَا فُرْقَتُهُ بِشَيْءٍ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ فِي الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ سَيّدُهُمَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيُفَرّقُ وَقَضَاءُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحَقّ أَنْ يُتّبَعَ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا الْمُتَقَدّمُ وَإِنْ كَانَ فِي إسْنَادِهِ مَا فِيهِ فَالْقُرْآنُ يُعَضّدُهُ وَعَلَيْهِ عَمَلُ النّاسِ.
.حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَنْ طَلّقَ دُونَ الثّلَاثِ ثُمّ رَاجَعَهَا بَعْدَ زَوْجٍ أَنّهَا عَلَى بَقِيّةِ الطّلَاقِ:
ذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مِقْسَمٍ أَنّهُ أَخْبَرَهُ أَنّهُ سَمِعَ نَبِيهَ بْنَ وَهْبٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَن رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى فِي الْمَرْأَةِ يُطَلّقُهَا زَوْجُهَا دُونَ الثّلَاثِ ثُمّ يَرْتَجِعُهَا بَعْدَ زَوْجٍ أَنّهَا عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ الطّلَاقِ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَعِيفٌ وَمَجْهُولٌ فَعَلَيْهِ أَكَابِرُ الصّحَابَةِ كَمَا ذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ فِي مُصَنّفِهِ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَعُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ كُلّهُمْ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ يَقُولُ أَيّمَا امْرَأَةٍ طَلّقَهَا زَوْجُهَا تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمّ تَرَكَهَا حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَيَمُوتَ عَنْهَا أَوْ يُطَلّقَهَا ثُمّ يَنْكِحُهَا زَوْجُهَا الْأَوّلُ فَإِنّهَا عِنْدَهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا. وَعَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأُبَيّ بْنِ كَعْبٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ مِثْلُهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا قَوْلُ الْأَكَابِرِ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ تَعُودُ عَلَى الثّلَاثِ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا: نِكَاحٌ جَدِيدٌ وَطَلَاقٌ جَدِيدٌ. وَذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوّلِ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِيهِمْ أَحْمَد وَالشّافِعِيّ وَمَالِكٌ وَذَهَبَ إلَى الثّانِي أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا إذَا أَصَابَهَا الثّانِي فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا فَهِيَ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا عِنْدَ الْجَمِيعِ وَقَالَ النّخْعِيّ لَمْ أَسْمَعْ فِيهَا اخْتِلَافًا وَلَوْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ لَكَانَ فَصْلَ النّزَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَوْ اتّفَقَتْ آثَارُ الصّحَابَةِ لَكَانَتْ فَصْلًا أَيْضًا. وَأَمّا فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ فَمُتَجَاذَبٌ فَإِنّ الزّوْجَ الثّانِيَ إذَا هَدَمَتْ إصَابَتُهُ الثّلَاثَ وَأَعَادَتْهَا إلَى الْأَوّلِ بِطَلَاقٍ جَدِيدٍ فَمَا دُونَهَا أَوْلَى وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوّلِ يَقُولُونَ لَمّا كَانَتْ إصَابَةُ الثّانِي شَرْطًا فِي حِلّ الْمُطَلّقَةِ ثَلَاثًا لِلْأَوّلِ لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ هَدْمِهَا وَإِعَادَتِهَا عَلَى طَلَاقٍ جَدِيدٍ وَأَمّا مَنْ طَلُقَتْ دُونَ الثّلَاثِ فَلَمْ تُصَادِفْ إصَابَةُ الثّانِي فِيهَا تَحْرِيمًا يُزِيلُهُ وَلَا هِيَ شَرْطٌ فِي الْحِلّ لِلْأَوّلِ فَلَمْ تَهْدِمْ شَيْئًا فَوُجُودُهَا كَعَدَمِهَا بِالنّسْبَةِ إلَى الْأَوّلِ وَإِحْلَالهَا لَهُ فَعَادَتْ عَلَى مَا بَقِيَ كَمَا لَوْ لَمْ يُصِبْهَا فَإِنّ إصَابَتَهُ لَا أَثَرَ لَهَا الْبَتّةَ وَلَا نِكَاحَهُ وَطَلَاقُهُ مُعَلّقٌ بِهَا بِوَجْهٍ مَا وَلَا تَأْثِيرَ لَهَا فِيهِ.
.حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمُطَلّقَةِ ثَلَاثًا لَا تَحِلّ لِلْأَوّلِ حَتّى يَطَأَهَا الزّوْجُ:
الثّانِي ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيّ جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ رِفَاعَةَ طَلّقَنِي فَبَتّ طَلَاقِي وَإِنّي نَكَحْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ الزّبَيْرِ الْقُرَظِيّ وَإِنّ مَا مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَعَلّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ. لَا حَتّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك. وَفِي سُنَنِ النّسَائِيّ: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعُسَيْلَةُ الْجِمَاعُ وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ. ابْنِ عُمَرَ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الرّجُلِ يُطَلّقُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَيَتَزَوّجُهَا الرّجُلُ فَيُغْلِقُ الْبَابَ وَيُرْخِي السّتْرَ ثُمّ يُطَلّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا؟ قَالَ لَا تَحِلّ لِلْأَوّلِ حَتّى يُجَامِعَهَا الْآخَرُ. فَتَضَمّنَ هَذَا الْحُكْمُ أُمُورًا: أَحَدُهَا: أَنّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ عَلَى الرّجُلِ أَنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى جِمَاعِهَا.
الثّانِي: أَنّ إصَابَةَ الزّوْجِ الثّانِي شَرْطٌ فِي حِلّهَا لِلْأَوّلِ خِلَافًا لِمَنْ اكْتَفَى بِمُجَرّدِ الْعَقْدِ فَإِنّ قَوْلَهُ مَرْدُودٌ بِالسّنّةِ الّتِي لَا مَرَدّ لَهَا.
الثّالِثُ أَنّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْإِنْزَالُ بَلْ يَكْفِي مُجَرّدُ الْجِمَاعِ الّذِي هُوَ ذَوْقُ الْعُسَيْلَةِ.
الرّابِعُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَجْعَلْ مُجَرّدَ الْعَقْدِ الْمَقْصُودِ الّذِي هُوَ نِكَاحُ رَغْبَةٍ كَافِيًا وَلَا اتّصَالَ الْخَلْوَةِ بِهِ وَإِغْلَاقَ الْأَبْوَابِ وَإِرْخَاءَ السّتُورِ حَتّى يَتّصِلَ بِهِ الْوَطْءُ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ لَا يَكْفِي مُجَرّدُ عَقْدِ التّحْلِيلِ الّذِي لَا غَرَضَ لِلزّوْجِ وَالزّوْجَةِ فِيهِ سِوَى صُورَةِ الْعَقْدِ وَإِحْلَالِهَا لِلْأَوّلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنّهُ إذَا كَانَ عَقْدُ الرّغْبَةِ الْمَقْصُودُ لِلدّوَامِ غَيْرَ كَافٍ حَتّى يُوجَدَ فِيهِ الْوَطْءُ فَكَيْفَ يَكْفِي عَقْدُ تَيْسٍ مُسْتَعَارٍ لِيُحِلّهَا لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي إمْسَاكِهَا وَإِنّمَا هُوَ عَارِيَةٌ كَحِمَارِ الْعَشْرِيّيْنِ الْمُسْتَعَارِ لِلضّرَابِ؟.
--------------
حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَرْأَةِ تُقِيمُ شَاهِدًا وَاحِدًا عَلَى طَلَاقِ زَوْجِهَا وَالزّوْجُ مُنْكِرٌ:
ذَكَرَ ابْنُ وَضّاحٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمّدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إذَا ادّعَتْ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ زَوْجِهَا فَجَاءَتْ عَلَى ذَلِكَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ عَدْلٍ اُسْتُحْلِفَ زَوْجُهَا فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَتْ عَنْهُ شَهَادَةُ الشّاهِدِ وَإِنْ نَكَلَ فَنُكُولُهُ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدٍ آخَرَ وَجَازَ طَلَاقُهُ فَتَضَمّنَ هَذَا الْحُكْمُ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ أَحَدُهَا: أَنّهُ لَا يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ الشّاهِدِ الْوَاحِدِ فِي الطّلَاقِ وَلَا مَعَ يَمِينِ الْمَرْأَةِ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الشّاهِدُ وَالْيَمِينُ إنّمَا يَكُونُ فِي الْأَمْوَالِ خَاصّةً لَا يَقَعُ فِي حَدّ وَلَا نِكَاحٍ وَلَا طَلَاقٍ وَلَا إعْتَاقٍ وَلَا سَرِقَةٍ وَلَا قَتْلٍ. وَقَدْ نَصّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ عَلَى أَنّ الْعَبْدَ إذَا ادّعَى أَنّ سَيّدَهُ أَعْتَقَهُ وَأَتَى بِشَاهِدٍ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَصَارَ حُرّا وَاخْتَارَهُ الْخِرَقِيّ وَنَصّ أَحْمَدُ فِي شَرِيكَيْنِ فِي عَبْدٍ ادّعَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنّ شَرِيكَهُ أَعْتَقَ حَقّهُ مِنْهُ وَكَانَا مُعْسِرَيْنِ عَدْلَيْنِ فَلِلْعَبْدِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَصِيرَ حُرّا وَيَحْلِفَ مَعَ أَحَدِهِمَا وَيَصِيرَ نِصْفُهُ حُرّا وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُ عَنْهُ أَنّ الطّلَاقَ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ. وَقَدْ دَلّ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هَذَا عَلَى أَنّهُ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَنُكُولِ الزّوْجِ وَهُوَ الصّوَابُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى فَإِنّ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ لَا يُعْرَفُ مِنْ أَئِمّةِ الْإِسْلَامِ إلّا مَنْ احْتَجّ بِهِ وَبَنَى عَلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَزُهَيْرُ بْنُ مُحَمّدٍ الرّاوِي عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ ثِقَةٌ مُحْتَجّ بِهِ فِي الصّحِيحَيْنِ وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ هُوَ أَبُو حَفْصٍ التّنِيسِيّ مُحْتَجّ بِهِ فِي الصّحِيحَيْنِ أَيْضًا فَمَنْ احْتَجّ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ. فَهَذَا مِنْ أَصَحّ حَدِيثِهِ.
الثّانِي: أَنّ الزّوْجَ يُسْتَحْلَفُ فِي دَعْوَى الطّلَاقِ إذَا لَمْ تُقِمْ الْمَرْأَةُ بِهِ بَيّنَةً لَكِنْ إنّمَا اسْتَحْلَفَهُ مَعَ قُوّةِ جَانِبِ الدّعْوَى بِالشّاهِدِ.
الثّالِثُ أَنّهُ يُحْكَمُ فِي الطّلَاقِ بِشَاهِدٍ وَنُكُولِ الْمُدّعَى عَلَيْهِ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ يُحْكَمُ بِوُقُوعِهِ بِمُجَرّدِ النّكُولِ مِنْ غَيْرِ شَاهِدٍ فَإِذَا ادّعَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا الطّلَاقَ وَأَحْلَفْنَاهُ لَهَا فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ فَنَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ فَإِذَا أَقَامَتْ شَاهِدًا وَاحِدًا وَلَمْ يَحْلِفْ الزّوْجُ عَلَى عَدَمِ دَعْوَاهَا فَالْقَضَاءُ بِالنّكُولِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصّورَةِ أَقْوَى. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَى الزّوْجِ بِالنّكُولِ إلّا إذَا أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ شَاهِدًا وَاحِدًا كَمَا هُوَ إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَأَنّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِمُجَرّدِ دَعْوَاهَا مَعَ نُكُولِهِ لَكِنْ مَنْ يَقْضِي عَلَيْهِ بِهِ يَقُولُ النّكُولُ إمّا إقْرَارٌ وَإِمّا بَيّنَةٌ وَكِلَاهُمَا يُحْكَمُ بِهِ وَلَكِنْ يَنْتَقِضُ هَذَا عَلَيْهِ بِالنّكُولِ فِي دَعْوَى الْقِصَاصِ وَيُجَابُ بِأَنّ النّكُولَ بَدَلٌ اُسْتُغْنِيَ بِهِ فِيمَا يُبَاحُ بِالْبَدَلِ وَهُوَ الْأَمْوَالُ وَحُقُوقُهَا دُونَ النّكَاحِ وَتَوَابِعُهُ.
الرّابِعُ أَنّ النّكُولَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيّنَةِ فَلَمّا أَقَامَتْ شَاهِدًا وَاحِدًا وَهُوَ شَطْرُ الْبَيّنَةِ كَانَ النّكُولُ قَائِمًا مَقَامَ تَمَامِهَا. وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَذَاهِبَ النّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْجَلّابِ فِي تَفْرِيعِهِ: وَإِذَا ادّعَتْ الْمَرْأَةُ الطّلَاقَ عَلَى زَوْجِهَا لَمْ يُحَلّفْ بِدَعْوَاهَا فَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدًا وَاحِدًا لَمْ تُحَلّفْ مَعَ شَاهِدِهَا وَلَمْ يَثْبُتْ الطّلَاقُ عَلَى زَوْجِهَا وَهَذَا الّذِي قَالَهُ لَا يُعْلَمُ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْأَئِمّةِ الْأَرْبَعَةِ. قَالَ وَلَكِنْ يَحْلِفُ لَهَا زَوْجُهَا فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ مِنْ دَعْوَاهَا. قُلْتُ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إحْدَاهُمَا: أَنّهُ يَحْلِفُ لِدَعْوَاهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشّافِعِيّ وَمَالِك وَأَبِي وَالثّانِيَةُ لَا يَحْلِفُ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَحْلِفُ فَلَا إشْكَالَ. وَإِنْ قُلْنَا: يَحْلِفُ فَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَهَلْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ بِالنّكُولِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ إحْدَاهُمَا: أَنّهَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ بِالشّاهِدِ وَالنّكُولِ عَمَلًا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَشْهُبَ هَذَا فِيهِ غَايَةُ الْقُوّةِ لِأَنّ الشّاهِدَ وَالنّكُولِ سَبَبَانِ مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَقَوِيَ جَانِبُ الْمُدّعِي بِهِمَا فَحُكِمَ لَهُ فَهَذَا مُقْتَضَى الْأَثَرِ وَالْقِيَاسِ. وَالرّوَايَةُ الثّانِيَةُ عَنْهُ أَنّ الزّوْجَ إذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حُبِسَ فَإِنْ طَالَ حَبْسُهُ تُرِكَ. وَاخْتَلَفَتْ الرّوَايَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ هَلْ يُقْضَى بِالنّكُولِ فِي دَعْوَى الْمَرْأَةِ الطّلَاقَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَلَا أَثَرَ عِنْدَهُ لِإِقَامَةِ الشّاهِدِ الْوَاحِدِ بَلْ إذَا ادّعَتْ عَلَيْهِ الطّلَاقَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي اسْتِحْلَافِهِ فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُسْتَحْلَفُ لَمْ يَكُنْ لِدَعْوَاهَا أَثَرٌ وَإِنْ قُلْنَا: يُسْتَحْلَفُ فَأَبَى فَهَلْ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالطّلَاقِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى الْكَلَامُ فِي الْقَضَاءِ بِالنّكُولِ وَهَلْ هُوَ إقْرَارٌ أَوْ بَدَلٌ أَوْ قَائِمٌ مَقَامَ الْبَيّنَةِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ؟.
.حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ وَبَيْنَ مُفَارَقَتِهِنّ لَهُ:
ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمّا أُمِرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي فَقَالَ إنّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَلّا تَعْجَلِي حَتَى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ. قَالَتْ وَقَدْ عَلِمَ أَنّ أَبَوَيّ لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ ثُمّ قَرَأَ {يَا أَيّهَا النّبِيّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنّ وَأُسَرّحْكُنّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَةَ فَإِنّ اللّهَ أَعَدّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الْأَحْزَابُ 28] فَقُلْتُ فِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيّ؟ فَإِنّي أُرِيدُ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَةَ. قَالَتْ عَائِشَةُ ثُمّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا قَالَ رَبِيعَةُ وَابْنُ شِهَابٍ: فَاخْتَارَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنّ نَفْسَهَا فَذَهَبَتْ وَكَانَتْ الْبَتّةَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَتْ بَدَوِيّةً. قَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ: وَهِيَ ابْنَةُ الضّحّاكِ الْعَامِرِيّةُ رَجَعَتْ إلَى أَهْلِهَا وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَدْ كَانَ دَخَلَ بِهَا. انْتَهَى. وَقِيلَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَكَانَتْ تَلْتَقِطُ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَعْرَ وَتَقُولُ أَنَا الشّقِيّةُ. وَاخْتَلَفَ النّاسُ فِي هَذَا التّخْيِيرِ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي أَيّ شَيْءٍ كَانَ؟ وَالثّانِي: فِي حُكْمِهِ فَأَمّا الْأَوّلُ فَاَلّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنّهُ كَانَ بَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ وَالْفِرَاقِ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ فِي مُصَنّفِهِ عَنْ الْحَسَنِ أَنّ اللّهَ تَعَالَى إنّمَا خَيّرَهُنّ بَيْنَ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَمْ يُخَيّرْهُنّ فِي الطّلَاقِ وَسِيَاقُ الْقُرْآنِ وَقَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَرُدّ قَوْلَهُ وَلَا رَيْبَ أَنّهُ سُبْحَانَهُ خَيّرَهُنّ بَيْنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَالدّارِ الْآخِرَةِ وَبَيْنَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا وَجَعَلَ مُوجَبَ اخْتِيَارِهِنّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَةَ الْمُقَامَ مَعَ رَسُولِهِ وَمُوجَبُ اخْتِيَارِهِنّ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا أَنْ يُمَتّعَهُنّ وَيُسَرّحَهُنّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَهُوَ الطّلَاقُ بِلَا شَكّ وَلَا نِزَاعٍ.
.كَانَ التّخْيِيرُ بَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ وَالْفِرَاقِ:
وَأَمّا اخْتِلَافُهُمْ فِي حُكْمِهِ فَفِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي حُكْمِ اخْتِيَارِ الزّوْجِ وَالثّانِي: فِي حُكْمِ اخْتِيَارِ النّفْسِ فَأَمّا الْأَوّلُ فَاَلّذِي عَلَيْهِ مُعْظَمُ أَصْحَابِ النّبِيّ وَنِسَاؤُهُ كُلّهُنّ وَمُعْظَمُ الْأُمّةِ أَنّ مَنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ تَطْلُق وَلَا يَكُونُ التّخْيِيرُ بِمُجَرّدِهِ طَلَاقًا صَحّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبّاسٍ وَعَائِشَةَ. قَالَتْ عَائِشَةُ خَيّرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاخْتَرْنَاهُ فَلَمْ نَعُدّهُ طَلَاقًا وَعَنْ أُمّ سَلَمَةَ وَقَرِيبَةِ أُخْتِهَا وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَصَحّ عَنْ عَلِيّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصّحَابَةِ أَنّهَا إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَهِيَ طَلْقَةٌ رَجْعِيّةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رَوَاهَا عَنْهُ قَالَ إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرّجْعَةَ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ انْفَرَدَ بِهَذَا إسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْعَمَلُ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَوَجْهُ هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنّ التّخْيِيرَ كِنَايَةٌ نَوَى بِهَا الطّلَاقَ فَوَقَعَ بِمُجَرّدِهَا كَسَائِرِ كِنَايَاتِهِ وَهَذَا هُوَ الّذِي صَرّحَتْ بِهِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَالْحَقّ مَعَهَا بِإِنْكَارِهِ وَرَدّهِ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا اخْتَارَهُ أَزْوَاجُهُ لَمْ يَقُلْ وَقَعَ بِكُنّ طَلْقَةٌ وَلَمْ يُرَاجِعْهُنّ وَهِيَ أَعْلَمُ الْأُمّةِ بِشَأْنِ التّخْيِيرِ وَقَدْ صَحّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا وَفِي لَفْظٍ لَمْ نَعُدّهُ طَلَاقًا وَفِي لَفْظٍ خَيّرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفَكَانَ طَلَاقًا؟. وَاَلّذِي لَحَظَهُ مَنْ قَالَ إنّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيّةٌ أَنّ التّخْيِيرَ تَمْلِيكٌ وَلَا تَمْلِكُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا إلّا وَقَدْ طَلُقَتْ فَالتّمْلِيكُ مُسْتَلْزِمٌ لِوُقُوعِ الطّلَاقِ وَهَذَا مَبْنِيّ عَلَى مُقَدّمَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا: أَنّ التّخْيِيرَ تَمْلِيكٌ.
وَالثّانِيَةُ أَنّ التّمْلِيكَ يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الطّلَاقِ وَكِلَا الْمُقَدّمَتَيْنِ مَمْنُوعَةٌ فَلَيْسَ التّخْيِيرُ بِتَمْلِيكٍ وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لَمْ يَسْتَلْزِمْ وُقُوعَ الطّلَاقِ قَبْلَ إيقَاعِ مَنْ مَلَكَهُ فَإِنّ غَايَةَ أَمْرِهِ أَنْ تَمْلِكَهُ الزّوْجَةُ كَمَا كَانَ الزّوْجُ يَمْلِكُهُ فَلَا يَقَعُ بِدُونِ إيقَاعِ مَنْ مَلَكَهُ وَلَوْ صَحّ مَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ بَائِنًا لِأَنّ الرّجْعِيّةَ لَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا.
.هَلْ التّخْيِيرُ يَسْتَلْزِمُ الطّلَاقَ:
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التّخْيِيرِ هَلْ هُوَ تَمْلِيكٌ أَوْ تَوْكِيلٌ أَوْ بَعْضُهُ تَمْلِيكٌ وَبَعْضُهُ تَوْكِيلٌ أَوْ هُوَ تَطْلِيقٌ مُنَجّزٌ أَوْ لَغْوٌ لَا أَثَرَ لَهُ الْبَتّةَ؟ عَلَى مَذَاهِبَ خَمْسَةٍ. التّفْرِيقُ هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ. قَالَ أَبُو الْخَطّابِ فِي رُءُوسِ الْمَسَائِلِ: هُوَ تَمْلِيكٌ يَقِفُ عَلَى الْقَبُولِ وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِيهِ إذَا قَالَ أَمْرُكِ بِيَدِك أَوْ اخْتَارِي فَقَالَتْ قَبِلْت لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنّ أَمْرُك بِيَدِك تَوْكِيلٌ فَقَوْلُهَا فِي جَوَابِهِ قَبِلْتُ يَنْصَرِفُ إلَى قَبُولِ الْوَكَالَةِ فَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيّةٍ أَمْرُ امْرَأَتِي بِيَدِك فَقَالَتْ قَبِلْت وَقَوْلُهُ اخْتَارِي: فِي مَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ قَالَتْ أَخَذَتْ أَمْرِي دَخَلَ عَلَيْهِمَا أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُك بِيَدِك فَقَالَتْ قَبِلْت لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتّى يَتَبَيّنَ وَقَالَ إذَا قَالَتْ أَخَذْتُ أَمْرِي لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي فَقَالَتْ قَبِلْتُ نَفْسِي أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي كَانَ أَبْيَنَ. انْتَهَى. وَفَرّقَ مَالِكٌ بَيْنَ اخْتَارِي وَبَيْنَ أَمْرُك بِيَدِكِ فَجَعَلَ أَمْرُكِ بِيَدِكِ تَمْلِيكًا واخْتَارِي تَخْيِيرًا لَا تَمْلِيكًا. قَالَ أَصْحَابُهُ وَهُوَ تَوْكِيلٌ. وَلِلشّافِعِيّ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنّهُ تَمْلِيكٌ وَهُوَ الصّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ.
وَالثّانِي: أَنّهُ تَوْكِيلٌ وَهُوَ الْقَدِيمُ. وَقَالَتْ الْحَنَفِيّةُ تَمْلِيكٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ هُوَ تَطْلِيقٌ تَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ مُنَجّزَةٌ وَلَهُ رَجْعَتُهَا وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَالَ أَهْلُ الظّاهِرِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ سَوَاءٌ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا وَلَا أَثَرَ لِلتّخْيِيرِ فِي وُقُوعِ الطّلَاقِ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَآخِذَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى وَجْهِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا.
.حُجَجُ مَنْ قَالَ بِأَنّ التّخْيِيرَ تَمْلِيكٌ:
قَالَ أَصْحَابُ التّمْلِيكِ لَمّا كَانَ الْبُضْعُ يَعُودُ إلَيْهَا بَعْدَ مَا كَانَ لِلزّوْجِ كَانَ هَذَا حَقِيقَةَ التّمْلِيكِ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَالتّوْكِيلُ يَسْتَلْزِمُ أَهْلِيّةَ الْوَكِيلِ لِمُبَاشَرَةِ مَا وُكّلَ فِيهِ وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ بِأَهْلٍ لِإِيقَاعِ الطّلَاقِ وَلِهَذَا لَوْ وَكّلَ امْرَأَةً فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ لَمْ يَصِحّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنّهَا لَا تُبَاشِرُ الطّلَاقَ وَاَلّذِينَ صَحّحُوهُ قَالُوا: كَمَا يَصِحّ أَنْ يُوَكّلَ رَجُلًا فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ يَصِحّ أَنْ يُوَكّلَ امْرَأَةً فِي طَلَاقِهَا.
.حُجَجُ مَنْ قَالَ بِأَنّهُ تَوْكِيلٌ:
قَالُوا: وَأَيْضًا فَالتّوْكِيلُ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ هَاهُنَا فَإِنّ الْوَكِيلَ هُوَ الّذِي يَتَصَرّفُ لِمُوَكّلِهِ لَا لِنَفْسِهِ وَالْمَرْأَةُ هَاهُنَا إنّمَا تَتَصَرّفُ لِنَفْسِهَا وَلِحَظّهَا وَهَذَا يُنَافِي تَصَرّفَ الْوَكِيلِ. قَالَ أَصْحَابُ التّوْكِيلِ وَاللّفْظُ لِصَاحِبِ الْمُغْنِي: وَقَوْلُهُمْ إنّهُ تَوْكِيلٌ لَا يَصِحّ فَإِنّ الطّلَاقَ لَا يَصِحّ تَمْلِيكُهُ وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ الزّوْجِ وَإِنّمَا يَنُوبُ فِيهِ غَيْرُهُ كَانَ تَوْكِيلًا لَا غَيْرَ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لَكَانَ مُقْتَضَاهُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ إلَيْهَا فِي بُضْعِهَا وَهُوَ مُحَالٌ فَإِنّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا وَلِهَذَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا لَا لِلزّوْجِ وَلَوْ مَلَكَ الْبُضْعَ لَمَلَكَ عِوَضَهُ كَمَنْ مَلَكَ مَنْفَعَةَ عَيْنٍ كَانَ عِوَضَ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ لَهُ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لَكَانَتْ الْمَرْأَةُ مَالِكَةً لِلطّلَاقِ وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ لَا يَبْقَى الزّوْجُ مَالِكًا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشّيْءِ الْوَاحِدِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مِلْكًا لِمَالِكَيْنِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَالزّوْجُ مَالِكٌ لِلطّلَاقِ بَعْدَ التّخْيِيرِ فَلَا تَكُونُ هِيَ مَالِكَةَ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قُلْنَا: هُوَ تَوْكِيلٌ وَاسْتِنَابَةٌ كَانَ الزّوْجُ مَالِكًا وَهِيَ نَائِبَةٌ وَوَكِيلَةٌ عَنْهُ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلّقِي نَفْسَك ثُمّ حَلَفَ أَنْ لَا يُطَلّقَ فَطَلّقَتْ نَفْسَهَا حَنِثَ فَدَلّ عَلَى أَنّهَا نَائِبَةٌ عَنْهُ وَأَنّهُ هُوَ الْمُطَلّقُ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَقَوْلُكُمْ إنّهُ تَمْلِيكٌ إمّا أَنْ تُرِيدُوا بِهِ أَنّهُ مَلّكَهَا نَفْسَهَا أَوْ أَنّهُ مَلّكَهَا أَنْ تُطَلّقَ فَإِنْ أَرَدْتُمْ الْأَوّلَ لَزِمَكُمْ أَنْ يَقَعَ الطّلَاقُ بِمُجَرّدِ قَوْلِهَا: قَبِلْت لِأَنّهُ أَتَى بِمَا يَقْتَضِي خُرُوجَ بُضْعِهَا عَنْ مِلْكِهِ وَاتّصَلَ بِهِ الْقَبُولُ وَإِنْ أَرَدْتُمْ الثّانِيَ فَهُوَ مَعْنَى التّوْكِيلِ. وَإِنْ غُيّرَتْ الْعِبَارَةُ.
.حُجَجُ الْمُفَرّقِينَ بَيْنَ بَعْضِ صُوَرِ التّخْيِيرِ وَبَعْضٍ:
قَالَ الْمُفَرّقُونَ بَيْنَ بَعْضِ صُوَرِهِ وَبَعْضٍ- وَهُمْ أَصْحَابُ مَالِكٍ- إذَا قَالَ لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِك أَوْ جَعَلْت أَمْرَك إلَيْك أَوْ مَلّكْتُك أَمْرَك فَذَاكَ تَمْلِيكٌ. وَإِذَا قَالَ اخْتَارِي فَهُوَ تَخْيِيرٌ قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا. أَمّا الْحَقِيقَةُ فَلِأَنّ اخْتَارِي لَمْ يَتَضَمّنْ أَكْثَرَ مِنْ تَخْيِيرِهَا لَمْ يُمَلّكْهَا نَفْسَهَا وَإِنّمَا خَيّرَهَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك فَإِنّهُ لَا يَكُونُ بِيَدِهَا إلّا وَهِيَ مَالِكَتُهُ وَأَمّا الْحُكْمُ فَلِأَنّهُ إذَا قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك وَقَالَ أَرَدْتُ بِهِ وَاحِدَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِذَا قَالَ اخْتَارِي فَطَلّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَعَتْ وَلَوْ قَالَ أَرَدْتُ وَاحِدَةً إلّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي إرَادَتِهِ الْوَاحِدَةِ. قَالُوا: لِأَنّ التّخْيِيرَ يَقْتَضِي أَنّ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا وَلَا يَحْصُلَ لَهَا ذَلِكَ إلّا بِالْبَيْنُونَةِ فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا لَمْ تَبِنْ إلّا بَانَتْ بِالْوَاحِدَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ أَمْرُك بِيَدِك فَإِنّهُ لَا يَقْتَضِي تَخْيِيرَهَا بَيْنَ نَفْسِهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بَلْ تَمْلِيكَهَا أَمْرَهَا وَهُوَ أَعَمّ مِنْ تَمْلِيكِهَا الْإِبَانَةَ بِثَلَاثٍ أَوْ بِوَاحِدَةٍ تَنْقَضِي بِهَا عِدّتُهَا فَإِنْ أَرَادَ بِهَا أَحَدَ مُحْتَمَلَيْهِ قُبِلَ قَوْلُهُ وَهَذَا بِعَيْنِهِ يَرُدّ عَلَيْهِمْ فِي اخْتَارِي فَإِنّهُ أَعَمّ مِنْ أَنْ تَخْتَارَ الْبَيْنُونَةَ بِثَلَاثٍ أَوْ بِوَاحِدَةٍ تَنْقَضِي بِهَا عِدّتُهَا بَلْ أَمْرُك بِيَدِك أَصْرَحُ فِي تَمْلِيكِ الثّلَاثِ مِنْ اخْتَارِي لِأَنّهُ مُضَافٌ وَمُضَافٌ إلَيْهِ فَيَعُمّ جَمِيعَ أَمْرِهَا. بِخِلَافِ اخْتَارِي فَإِنّهُ مُطْلَقٌ لَا عُمُومَ لَهُ فَمِنْ أَيْنَ يُسْتَفَادُ مِنْهُ الثّلَاثُ؟ وَهَذَا مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَإِنّهُ قَالَ فِي اخْتَارِي: إنّهُ لَا تَمْلِكُ بِهِ الْمَرْأَةُ أَكْثَرَ مِنْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ إلّا بِنِيّةِ الزّوْجِ وَنَصّ فِي أَمْرُك بِيَدِك وَطَلَاقُك بِيَدِك وَوَكّلْتُك فِي الطّلَاقِ: عَلَى أَنّهَا تَمْلِكُ بِهِ الثّلَاثَ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنّهَا لَا تَمْلِكُهَا إلّا بِنِيّتِهِ.
------------
حُجّةُ مَنْ جَعَلَهُ تَطْلِيقًا مُنَجّزًا:
وَأَمّا مَنْ جَعَلَهُ تَطْلِيقًا مُنَجّزًا فَقَدْ تَقَدّمَ وَجْهُ قَوْلِهِ وَضَعْفُهُ.
.حُجَجُ مَنْ جَعَلَهُ لَغْوًا:
وَأَمّا مَنْ جَعَلَهُ لَغْوًا فَلَهُمْ مَأْخَذَانِ أَحَدُهُمَا: أَنّ الطّلَاقَ لَمْ يَجْعَلْهُ اللّهُ بِيَدِ النّسَاءِ إنّمَا جَعَلَهُ بِيَدِ الرّجَالِ وَلَا يَتَغَيّرُ شَرْعُ اللّهِ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ نَقْلَ الطّلَاقِ إلَى مَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللّهُ إلَيْهِ الطّلَاقَ الْبَتّةَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ: حَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيّاشٍ حَدّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ أَنّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَةٍ لَهُ إنْ أَدْخَلْت هَذَا الْعِدْلَ إلَى هَذَا الْبَيْتِ فَأَمْرُ صَاحِبَتِك بِيَدِك فَأَدْخَلَتْهُ ثُمّ قَالَتْ هِيَ طَالِقٌ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَأَبَانَهَا مِنْهُ فَمَرّوا بِعَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَأَخْبَرُوهُ فَذَهَبَ بِهِمْ إلَى عُمَرَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ الرّجَالَ قَوّامِينَ عَلَى النّسَاءِ وَلَمْ يَجْعَلْ النّسَاءَ قَوّامَاتٍ عَلَى الرّجَالِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَمَا تَرَى؟ قَالَ أَرَاهَا امْرَأَتَهُ. قَالَ وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً قُلْت: يَحْتَمِلُ أَنّهُ جَعَلَهَا وَاحِدَةً بِقَوْلِ الزّوْجِ فَأَمْرُ صَاحِبَتِك بِيَدِك وَيَكُونُ كِنَايَةً فِي الطّلَاقِ وَيُحْتَمَلُ أَنّهُ جَعَلَهَا وَاحِدَةً بِقَوْلِ ضُرّتِهَا: هِيَ طَالِقٌ وَلَمْ يَجْعَلْ لِلضّرّةِ إبَانَتَهَا لِئَلّا تَكُونَ هِيَ الْقَوّامَةَ عَلَى الزّوْجِ فَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ لِمَا ذَهَبَتْ إلَيْهِ هَذِهِ الْفِرْقَةُ بَلْ هُوَ حُجّةٌ عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْغَفّارِ- بْنُ دَاوُدَ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنّ رُمَيْثَةَ الْفَارِسِيّةَ كَانَتْ تَحْتَ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَمَلّكَهَا أَمْرَهَا فَقَالَتْ أَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثَ مَرّاتٍ فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ: أَخْطَأْت لَا طَلَاقَ لَهَا لِأَنّ الْمَرْأَةَ لَا تُطَلّقُ وَهَذَا أَيْضًا لَا يَدُلّ لِهَذِهِ الْفِرْقَةِ لِأَنّهُ إنّمَا لَمْ يُوقِعْ الطّلَاقَ لِأَنّهَا أَضَافَتْهُ إلَى غَيْرِ مَحَلّهِ وَهُوَ الزّوْجُ وَهُوَ لَمْ يَقُلْ أَنَا مِنْك طَالِقٌ وَهَذَا نَظِيرُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرّزّاقِ حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُ أَنّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهَ عَنْهُمَا فَقَالَ مَلّكْتُ امْرَأَتِي أَمْرَهَا فَطَلّقَتْنِي ثَلَاثًا فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: خَطّأَ اللّهُ نَوْأَهَا إنّمَا الطّلَاقُ لَك عَلَيْهَا وَلَيْسَ لَهَا عَلَيْك قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عَنْ الرّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُكِ بِيَدِك؟ فَقَالَ قَالَ عُثْمَانُ وَعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا: الْقَضَاءُ مَا قَضَتْ قُلْت: فَإِنْ قَالَتْ قَدْ طَلّقْتُ نَفْسِي ثَلَاثًا قَالَ الْقَضَاءُ مَا قَضَتْ. قُلْت: فَإِنْ قَالَتْ طَلّقْتُك ثَلَاثًا قَالَ الْمَرْأَةُ لَا تُطَلّق وَاحْتَجّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُمَا: خَطّأَ اللّهُ نَوْأَهَا وَرَوَاهُ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي رَجُلٍ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ فِي يَدِهَا فَقَالَتْ قَدْ طَلّقْتُك ثَلَاثًا قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: خَطّأَ اللّهُ نَوْأَهَا أَفَلَا طَلّقَتْ نَفْسَهَا قَالَ أَحْمَدُ صَحّفَ أَبُو مَطَرٍ فَقَالَ خَطّأَ اللّهُ فُوهَا وَلَكِنْ رَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ طَاوُسٍ كَيْفَ كَانَ أَبُوك يَقُولُ فِي رَجُلٍ مَلّكَ امْرَأَتَهُ أَمْرَهَا أَتَمْلِكُ أَنْ تُطَلّقَ نَفْسَهَا أَمْ لَا؟ قَالَ كَانَ يَقُولُ لَيْسَ إلَى النّسَاءِ طَلَاقٌ فَقُلْت لَهُ فَكَيْفَ كَانَ أَبُوك يَقُولُ فِي رَجُلٍ مَلّكَ رَجُلًا أَمْرَ امْرَأَتِهِ أَيَمْلِكُ الرّجُلُ أَنْ يُطَلّقَهَا؟ قَالَ لَا أَمْرَهَا لَغْوٌ وَكَذَلِكَ تَوْكِيلُهُ غَيْرَهُ فِي الطّلَاقِ. قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ بْنُ حَزْمٍ: وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا. الْحُجّةُ الثّانِيَةُ لِهَؤُلَاءِ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ إنّمَا جَعَلَ أَمْرَ الطّلَاقِ إلَى الزّوْجِ دُونَ النّسَاءِ لِأَنّهُنّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِنّ السّفَهُ وَتَذْهَبُ بِهِنّ الشّهْوَةُ وَالْمَيْلُ إلَى الرّجَالِ كُلّ مَذْهَبٍ فَلَوْ جُعِلَ أَمْرُ الطّلَاقِ إلَيْهِنّ لَمْ يَسْتَقِمْ لِلرّجَالِ مَعَهُنّ أَمْرٌ وَكَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ بِأَزْوَاجِهِنّ فَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ أَنّهُ لَمْ يَجْعَلْ بِأَيْدِيهِنّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْفِرَاقِ وَجَعَلَهُ إلَى الْأَزْوَاجِ. فَلَوْ جَازَ لِلْأَزْوَاجِ نَقْلُ ذَلِكَ إلَيْهِنّ لَنَاقَضَ حِكْمَةَ اللّهِ وَرَحْمَتَهُ وَنَظَرَهُ لِلْأَزْوَاجِ. قَالُوا: وَالْحَدِيثُ إنّمَا دَلّ عَلَى التّخْيِيرِ فَقَطْ فَإِنْ اخْتَرْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَةَ كَمَا وَقَعَ كُنّ أَزْوَاجَهُ بِحَالِهِنّ وَإِنْ اخْتَرْنَ أَنْفُسَهُنّ مَتّعَهُنّ وَطَلّقَهُنّ هُوَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ السّرَاحُ الْجَمِيلُ لَا أَنّ اخْتِيَارَهُنّ لِأَنْفُسِهِنّ يَكُونُ هُوَ نَفْسَ الطّلَاقِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الظّهُورِ كَمَا تَرَى. قَالَ هَؤُلَاءِ وَالْآثَارُ عَنْ الصّحَابَةِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ اخْتِلَافًا شَدِيدًا فَصَحّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي رَجُلٍ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا فَطَلّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا أَنّهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيّةٌ وَصَحّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ. أَنّ الْقَضَاءَ مَا قَضَتْ وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ الزّبَيْرِ. وَصَحّ عَنْ عَلِيّ وَزَيْدٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ أَنّهَا إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيّةٌ وَصَحّ عَنْ بَعْضِ الصّحَابَةِ أَنّهَا إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ بِكُلّ حَالٍ وَرُوِيَ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَنْ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِ آخَرَ فَطَلّقَهَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ بْنُ حَزْمٍ: وَقَدْ تَقَصّيْنَا مَنْ رَوَيْنَا عَنْهُ مِنْ الصّحَابَةِ أَنّهُ يَقَعُ بِهِ الطّلَاقُ فَلَمْ يَكُونُوا بَيْنَ مَنْ صَحّ عَنْهُ وَمَنْ لَمْ يَصِحّ عَنْهُ إلّا سَبْعَةٌ ثُمّ اخْتَلَفُوا وَلَيْسَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضٍ وَلَا أَثَرَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلّا مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ النّسَائِيّ أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيّ الْجَهْضَمِيّ حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ قُلْت لِأَيّوبٍ السّخْتِيَانِيّ هَلْ عَلِمْتَ أَحَدًا قَالَ فِي أَمْرُك بِيَدِك: إنّهَا ثَلَاثٌ غَيْرَ الْحَسَنِ؟ قَالَ لَا اللّهُمّ غُفْرًا إلّا مَا حَدّثَنِي بِهِ قَتَادَةُ عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ثَلَاثٌ. قَالَ أَيّوبٌ فَلَقِيت كَثِيرًا مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ فَسَأَلْته فَلَمْ يَعْرِفْهُ فَرَجَعْتُ إلَى قَتَادَةَ فَأَخْبَرْته فَقَالَ نَسِيَ. قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ كَثِيرٌ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ مَجْهُولٌ وَلَوْ كَانَ مَشْهُورًا بِالثّقَةِ وَالْحِفْظِ لَمَا خَالَفْنَا هَذَا الْخَبَرَ وَقَدْ أَوْقَفَهُ بَعْضُ رُوَاتِهِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. انْتَهَى. وَقَالَ الْمَرْوَذِيّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللّهِ مَا تَقُولُ فِي امْرَأَةٍ خُيّرَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا؟ قَالَ قَالَ فِيهَا خَمْسَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهَا وَاحِدَةٌ وَلَهَا الرّجْعَةُ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَذَكَرَ آخَرُ قَالَ غَيْرُ الْمَرْوَذِيّ هُوَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ وَمَنْ خَيّرَ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَوْ اخْتَارَتْ الطّلَاقَ أَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَوْ لَمْ تَخْتَرْ شَيْئًا فَكُلّ ذَلِكَ لَا شَيْءَ وَكُلّ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَلَا تَطْلُقُ بِذَلِكَ وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حُكْمٌ وَلَوْ كَرّرَ التّخْيِيرَ وَكَرّرَتْ هِيَ اخْتِيَارَ نَفْسِهَا أَوْ اخْتِيَارَ الطّلَاقِ أَلْفَ مَرّةٍ وَكَذَلِكَ إنْ مَلّكَهَا نَفْسَهَا أَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا. وَلَا فَرْقَ.
وَلَا حُجّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِذْ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا عَنْ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ قَوْلَ الرّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُك بِيَدِك أَوْ قَدْ مَلّكْتُكِ أَمْرَك أَوْ اخْتَارِي يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا أَوْ أَنّ لَهَا أَنْ تُطَلّقَ نَفْسَهَا أَوْ تَخْتَارَ طَلَاقًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْرُمُ عَلَى الرّجُلِ فَرْجٌ أَبَاحَهُ اللّهُ تَعَالَى لَهُ وَرَسُولُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَقْوَالٍ لَمْ يُوجِبْهَا اللّهُ وَلَا رَسُولُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالُوا: وَاضْطِرَابُ أَقْوَالِ الْمُوقِعِينَ وَتَنَاقُضُهَا وَمُعَارَضَةُ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ يَدُلّ عَلَى فَسَادِ أَصْلِهَا وَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ صَحِيحًا لَاطّرَدَتْ فُرُوعُهُ وَلَمْ تَتَنَاقَضْ وَلَمْ تَخْتَلِفْ وَنَحْنُ نُشِيرُ إلَى طَرَفٍ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ. فَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَقَعُ الطّلَاقُ بِمُجَرّدِ التّخْيِيرِ أَوْ لَا يَقَعُ حَتّى تَخْتَارَ نَفْسَهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ تَقَدّمَ حِكَايَتُهُمَا ثُمّ اخْتَلَفَ الّذِينَ لَا يُوقِعُونَهُ بِمُجَرّدِ قَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك: هَلْ يَخْتَصّ اخْتِيَارُهَا بِالْمَجْلِسِ أَوْ يَكُونُ فِي يَدِهَا مَا لَمْ يَفْسَخْ أَوْ يَطَأْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنّهُ يَتَقَيّدُ بِالْمَجْلِسِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشّافِعِيّ وَمَالِكٍ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
الثّانِي: أَنّهُ فِي يَدِهَا أَبَدًا حَتّى يَفْسَخَ أَوْ يَطَأَ وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَالرّوَايَةُ الثّانِيَةُ عَنْ مَالِكٍ. ثُمّ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَذَلِكَ مَا لَمْ تَطُلْ حَتّى يَتَبَيّنَ أَنّهَا تَرَكَتْهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَعَدّى شَهْرَيْنِ ثُمّ اخْتَلَفُوا هَلْ عَلَيْهَا يَمِينٌ أَنّهَا تَرَكَتْ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. ثُمّ اخْتَلَفُوا إذَا رَجَعَ الزّوْجُ فِيمَا جَعَلَ إلَيْهَا فَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشّعْبِيّ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ لَهُ ذَلِكَ وَيَبْطُلُ خِيَارُهَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثّوْرِيّ وَالزّهْرِيّ: لَيْسَ لَهُ الرّجُوعُ وَلِلشّافِعِيّةِ خِلَافٌ مَبْنِيّ عَلَى أَنّهُ تَوْكِيلٌ فَيَمْلِكُ الْمُوَكّلُ الرّجُوعَ أَوْ تَمْلِيكٌ فَلَا يَمْلِكُهُ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ التّمْلِيكِ وَلَا يَمْتَنِعُ الرّجُوعُ. وَإِنْ قُلْنَا إنّهُ تَمْلِيكٌ لِأَنّهُ لَمْ يَتّصِلْ بِهِ الْقَبُولُ فَجَازَ الرّجُوعُ فِيهِ كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ. وَاخْتَلَفُوا: فِيمَا يَلْزَمُ مِنْ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا. فَقَالَ أَحْمَدُ وَالشّافِعِيّ وَاحِدَةٌ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبّاسٍ وَاخْتَارَهُ أَبُو عَبِيدٍ وَإِسْحَاقُ. وَعَنْ عَلِيّ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ثَلَاثٌ وَهُوَ قَوْلُ اللّيْثِ وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَثَلَاثٌ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا قُبِلَ مِنْهُ دَعْوَى الْوَاحِدَةِ. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَفْتَقِرُ قَوْلُهُ أَمْرُك بِيَدِك إلَى نِيّةٍ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَحْمَدُ وَالشّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَفْتَقِرُ إلَى نِيّةٍ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيّةٍ وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَفْتَقِرُ وُقُوعُ الطّلَاقِ إلَى نِيّةِ الْمَرْأَةِ إذَا قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي أَوْ فَسَخْت نِكَاحَك؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَفْتَقِرُ وُقُوعُ الطّلَاقِ إلَى نِيّتِهَا إذَا نَوَى الزّوْجُ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَالشّافِعِيّ: لَابُدّ مِنْ نِيّتِهَا إذَا اخْتَارَتْ بِالْكِنَايَةِ ثُمّ قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ إنْ قَالَتْ اخْتَرْتُ نَفْسِي أَوْ قَبِلْتُ نَفْسِي لَزِمَ الطّلَاقُ وَلَوْ قَالَتْ لَمْ أُرِدْهُ وَإِنْ قَالَتْ. قَبِلْت أَمْرِي سُئِلَتْ عَمّا أَرَادَتْ؟ فَإِنْ أَرَادَتْ الطّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا وَإِنْ لَمْ تُرِدْهُ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا. ثُمّ قَالَ مَالِكٌ إذَا قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك وَقَالَ قَصَدْتُ طَلْقَةً وَاحِدَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيّةٌ فَلَهُ أَنْ يُوقِعَ مَا شَاءَ. وَإِذَا قَالَ اخْتَارِي وَقَالَ أَرَدْت وَاحِدَةً فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. ثُمّ هَاهُنَا فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ مُضْطَرِبَةٌ غَايَةَ الِاضْطِرَابِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَالزّوْجَةُ زَوْجَتُهُ حَتّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى زَوَالِ عِصْمَتِهِ عَنْهَا. قَالُوا: وَلَمْ يَجْعَلْ اللّهُ إلَى النّسَاءِ شَيْئًا مِنْ النّكَاحِ وَلَا مِنْ الطّلَاقِ وَإِنّمَا جَعَلَ ذَلِكَ إلَى الرّجَالِ وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ الرّجَالَ قَوّامِينَ عَلَى النّسَاءِ إنْ شَاءُوا أَمْسَكُوا وَإِنْ شَاءُوا طَلّقُوا فَلَا يَجُوزُ لِلرّجُلِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَرْأَةَ قَوّامَةً عَلَيْهِ إنْ شَاءَتْ أَمْسَكَتْ وَإِنْ شَاءَتْ طَلّقَتْ. قَالُوا: وَلَوْ أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى شَيْءٍ لَمْ نَتَعَدّ إجْمَاعَهُمْ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَطَلَبْنَا الْحُجّةَ لِأَقْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِهَا فَلَمْ نَجِدْ الْحُجّةَ تَقُومُ إلّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَإِنْ كَانَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ أَيْضًا وَقَدْ أَبْطَلَ مَنْ ادّعَى الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ فَالنّزَاعُ ثَابِتٌ بَيْنَ الصّحَابَةِ وَالتّابِعِينَ كَمَا حَكَيْنَاهُ وَالْحُجّةُ لَا تَقُومُ بِالْخِلَافِ فَهَذَا ابْنُ عَبّاسٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ قَدْ قَالَا: إنّ تَمْلِيكَ الرّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَمْرَهَا لَيْسَ بِشَيْءٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِيمَنْ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِ آخَرَ فَطَلّقَهَا: لَيْسَ بِشَيْءٍ وَطَاوُوسٌ يَقُولُ فِيمَنْ مَلّكَ امْرَأَتَهُ أَمْرَهَا: لَيْسَ إلَى النّسَاءِ طَلَاقٌ وَيَقُولُ فِيمَنْ مَلّكَ رَجُلًا أَمْرَ امْرَأَتِهِ أَيَمْلِكُ الرّجُلُ أَنْ يُطَلّقَهَا؟ قَالَ لَا قُلْت: أَمّا الْمَنْقُولُ عَنْ طَاوُسٍ فَصَحِيحٌ صَرِيحٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ سَنَدًا وَصَرَاحَةً. وَأَمّا الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمُخْتَلِفٌ فَنُقِلَ عَنْهُ مُوَافَقَةُ عَلِيّ وَزَيْدٍ فِي الْوُقُوعِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ الشّعْبِيّ: أَنّ أَمْرُك بِيَدِك وَاخْتَارِي سَوَاءٌ فِي قَوْلِ عَلِيّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ وَنُقِلَ عَنْهُ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُ فُلَانَةَ بِيَدِك إنْ أَدْخَلَتْ هَذَا الْعَدْلَ الْبَيْتَ فَفَعَلَتْ أَنّهَا امْرَأَتُهُ وَلَمْ يُطَلّقْهَا عَلَيْهِ. وَأَمّا الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وَعُثْمَانَ فَإِنّمَا هُوَ فِيمَا إذَا أَضَافَتْ الْمَرْأَةُ الطّلَاقَ إلَى الزّوْجِ وَقَالَتْ أَنْتِ طَالِقٌ. وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ يَقُولَانِ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِمَا بِوُقُوعِ الطّلَاقِ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَوْ طَلّقَتْ نَفْسَهَا فَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصّحَابَةِ إلْغَاءَ التّخْيِيرِ وَالتّمْلِيكِ الْبَتّةَ إلّا هَذِهِ الرّوَايَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهَا وَالثّابِتُ عَنْ الصّحَابَةِ اعْتِبَارُ ذَلِكَ وَوُقُوعَ الطّلَاقِ بِهِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيمَا تَمْلِكُ بِهِ الْمَرْأَةُ كَمَا تَقَدّمَ وَالْقَوْلُ بِأَنّ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصّحَابَةِ الْبَتّةَ وَإِنّمَا وَهِمَ أَبُو مُحَمّدٍ فِي الْمَنْقُولِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وَعُثْمَانَ وَلَكِنّ هَذَا مَذْهَبُ طَاوُسٍ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عَطَاءٍ مَا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ فَرَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْت لِعَطَاءٍ رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُك بِيَدِك بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ قَالَ لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ. قُلْت: فَأَرْسَلَ إلَيْهَا رَجُلًا أَنّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا يَوْمًا أَوْ سَاعَةً قَالَ مَا أَدْرِي مَا هَذَا؟ مَا أَظُنّ هَذَا شَيْئًا. قُلْت لِعَطَاءٍ أَمَلّكْت عَائِشَةَ حَفْصَةَ حِينَ مَلّكَهَا الْمُنْذِرُ أَمْرَهَا قَالَ عَطَاءٌ لَا إنّمَا عَرَضَتْ عَلَيْهَا أَتُطَلّقُهَا أَمْ لَا وَلَمْ تُمَلّكْهَا أَمْرَهَا وَلَوْلَا هَيْبَةُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمَا عَدَلْنَا عَنْ هَذَا الْقَوْلِ وَلَكِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُمْ الْقُدْوَةُ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ التّخْيِيرِ فَفِي ضِمْنِ اخْتِلَافِهِمْ اتّفَاقُهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ التّخْيِيرِ وَعَدَمِ إلْغَائِهِ وَلَا مَفْسَدَةَ فِي ذَلِكَ وَالْمَفْسَدَةُ الّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فِي كَوْنِ الطّلَاقِ بِيَدِ الْمَرْأَةِ إنّمَا تَكُونُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِيَدِهَا اسْتِقْلَالًا فَأَمّا إذَا كَانَ الزّوْجُ هُوَ الْمُسْتَقِلّ بِهَا فَقَدْ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ لَهُ فِي تَفْوِيضِهَا إلَى الْمَرْأَةِ لِيَصِيرَ حَالُهُ مَعَهَا عَلَى بَيّنَةٍ إنْ أَحَبّتْهُ أَقَامَتْ مَعَهُ وَإِنْ كَرِهَتْهُ فَارَقَتْهُ فَهَذَا مَصْلَحَةٌ لَهُ وَلَهَا وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي تَغْيِيرَ شَرْعِ اللّهِ وَحِكْمَتِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَوْكِيلِ الْمَرْأَةِ فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا وَتَوْكِيلِ الْأَجْنَبِيّ وَلَا مَعْنَى لِمَنْعِ تَوْكِيلِ الْأَجْنَبِيّ فِي الطّلَاقِ كَمَا يَصِحّ تَوْكِيلُهُ فِي النّكَاحِ وَالْخُلْعِ. وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لِلْحَكَمَيْنِ النّظَرَ فِي حَالِ الزّوْجَيْنِ عِنْدَ الشّقَاقِ إنْ رَأَيَا التّفْرِيقَ فَرّقَا وَإِنْ رَأَيَا الْجَمْعَ جَمَعَا وَهُوَ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ مِنْ غَيْرِ الزّوْجِ إمّا بِرِضَاهُ إنْ قِيلَ هُمَا وَكِيلَانِ أَوْ بِغَيْرِ رِضَاهُ إنْ قِيلَ هُمَا حَكَمَانِ وَقَدْ جَعَلَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُطَلّقَ عَلَى الزّوْجِ فِي مَوَاضِعَ بِطَرِيقِ النّيَابَةِ عَنْهُ فَإِذَا وَكّلَ الزّوْجُ مَنْ يُطَلّقُ عَنْهُ أَوْ يُخَالِعُ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ اللّهِ وَلَا مُخَالَفَةَ لِدِينِهِ فَإِنّ الزّوْجَ هُوَ الّذِي يُطَلّقُ إمّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ وَقَدْ يَكُونُ أَتَمّ نَظَرًا لِلرّجُلِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَعْلَمَ بِمَصْلَحَتِهِ فَيُفَوّضُ إلَيْهِ مَا هُوَ أَعْلَمُ بِوَجْهِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ مِنْهُ وَإِذَا جَازَ التّوْكِيلُ فِي الْعِتْقِ وَالنّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالْإِبْرَاءِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِهَا وَإِثْبَاتِهَا وَاسْتِيفَائِهَا وَالْمُخَاصَمَةِ فِيهَا فَمَا الّذِي حَرّمَ التّوْكِيلَ فِي الطّلَاقِ؟ نَعَمْ الْوَكِيلُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكّلِ فِيمَا يَمْلِكُهُ مِنْ الطّلَاقِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ وَمَا يَحِلّ لَهُ مِنْهُ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَفِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُطَلّقْ إلّا الزّوْجُ إمّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ.
.حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي بَيّنَهُ عَنْ رَبّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيمَنْ حَرّمَ أَمَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ مَتَاعَهُ:
قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التّحْرِيمُ 1] ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَرِبَ عَسَلًا مِنْ بَيْتِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَاحْتَالَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ حَتّى قَالَ لَنْ أَعُودَ لَهُ. وَفِي لَفْظٍ وَقَدْ حَلَفَتْ. وَفِي سُنَنِ النّسَائِيّ: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةٌ حَتّى حَرّمَهَا فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ {يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ}. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ إذَا حَرّمَ الرّجُلُ امْرَأَتَهُ فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفّرُهَا وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. وَفِي جَامِعِ التّرْمِذِيّ: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ آلَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ نِسَائِهِ وَحَرّمَ فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ كَفّارَة. مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ دَاوُدَ عَنْ الشّعَبِيّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ وَرَوَاهُ عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ الشّعَبِيّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُرْسَلًا وَهُوَ أَصَحّ انْتَهَى كَلَامُ أَبِي عِيسَى. وَقَوْلُهَا: جَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا أَيْ جَعَلَ الشّيْءَ الّذِي حَرّمَهُ وَهُوَ الْعَسَلُ أَوْ الْجَارِيَةُ حَلَالًا بَعْدَ تَحْرِيمِهِ إيّاهُ. وَقَالَ اللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ سَأَلْت زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ عَمّنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ فَقَالَا جَمِيعًا: كَفّارَةُ يَمِينٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ فِي التّحْرِيمِ هِيَ يَمِينٌ يُكَفّرُهَا. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصّدِيقِ وَعَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْحَجّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ سَأَلْت نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ الْحَرَامِ أَطْلَاقٌ هُوَ؟ قَالَ لَا أَوَلَيْسَ قَدْ حَرّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَارِيَتَهُ فَأَمَرَهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ أَنْ يُكَفّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَمْ يُحَرّمْهَا عَلَيْه. وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ وَأَيّوبِ السّخْتِيَانِيّ كِلَاهُمَا عَنْ عِكْرِمَةَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ قَالَ هِيَ يَمِينٌ يَعْنِي التّحْرِيمَ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ حَدّثَنَا الْمُقَدّمِيّ حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ الْحَرَامُ يَمِينٌ.
--------------
مَذَاهِبُ النّاسِ فِي تَحْرِيمِ الرّجُلِ أَمَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ مَتَاعَهُ:
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ إذَا حَرّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فَقِيلَ هَذَا رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ. وَقِيلَ إنّمَا أَرَادَ أَنّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وَفِيهِ كَفّارَةُ يَمِينٍ وَلِهَذَا احْتَجّ بِفِعْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهَذَا الثّانِي أَظْهَرُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا عِشْرُونَ مَذْهَبًا لِلنّاسِ وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا وَنَذْكُرُ وُجُوهَهَا وَمَآخِذُهَا وَالرّاجِحُ مِنْهَا بِعَوْنِ اللّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ:
أَحَدُهَا: أَنّ التّحْرِيمَ لَغْوٌ لَا شَيْءَ فِيهِ لَا فِي الزّوْجَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا لَا طَلَاقَ وَلَا إيلَاءَ وَلَا يَمِينَ وَلَا ظِهَارَ رَوَى وَكِيعٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشّعَبِيّ عَنْ مَسْرُوقٍ: مَا أُبَالِي حَرّمْتُ امْرَأَتِي أَوْ قَصْعَةً مِنْ ثَرِيدٍ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ الثّوْرِيّ عَنْ صَالِحِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الشّعَبِيّ أَنّهُ قَالَ فِي تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ لَهِيَ أَهْوَنُ عَلَيّ مِنْ نَعْلِي وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَنّهُ قَالَ مَا أُبَالِي حَرّمْتُهَا يَعْنِي امْرَأَتَهُ أَوْ حَرّمْتُ مَاءَ النّهْرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: سَأَلَ رَجُلٌ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحِمْيَرِيّ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ قَالَ اللّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبّكَ فَارْغَبْ} [أَلَمْ نَشْرَحْ 7] وَأَنْتَ رَجُلٌ تَلْعَبُ فَاذْهَبْ فَالْعَبْ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظّاهِرِ كُلّهِمْ.
.مَنْ قَالَ بِأَنّ التّحْرِيمَ فِي الزّوْجَةِ طَلَاقٌ ثَلَاثٌ:
الْمَذْهَبُ الثّانِي: أَنّ التّحْرِيمَ فِي الزّوْجَةِ طَلَاقٌ ثَلَاثٌ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ قَالَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَرُوِيَ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ. قُلْت: الثّابِتُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ مَا رَوَاهُ هُوَ مِنْ طَرِيقِ اللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي هُبَيْرَةَ عَنْ قَبِيصَةَ أَنّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَابْنَ عُمَرَ عَمّنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ. أَنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ فَقَالَا جَمِيعًا: كَفّارَةُ يَمِينٍ وَلَمْ يَصِحّ عَنْهُمَا خِلَافُ ذَلِكَ وَأَمّا عَلِيّ فَقَدْ رَوَى أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطّانِ حَدّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشّعَبِيّ قَالَ يَقُولُ رِجَالٌ فِي الْحَرَامِ هِيَ حَرَامٌ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَلَا وَاَللّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ عَلِيّ وَإِنّمَا قَالَ عَلِيّ: مَا أَنَا بِمُحِلّهَا وَلَا بِمُحَرّمِهَا عَلَيْك إنْ شِئْت فَتَقَدّمْ وَإِنْ شِئْت فَتَأَخّرْ وَأَمّا الْحَسَنُ فَقَدْ رَوَى أَبُو مُحَمّدٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ كُلّ حَلَالٍ عَلَيّ حَرَامٌ فَهُوَ يَمِينٌ وَلَعَلّ أَبَا مُحَمّدٍ غَلِطَ عَلَى عَلِيّ وَزَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْخَلِيّةِ وَالْبَرِيّةِ وَالْبَتّةِ فَإِنّ أَحْمَدَ حَكَى عَنْهُمْ أَنّهَا ثَلَاثٌ. وَقَالَ هُوَ عَنْ عَلِيّ وَابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ فَوَهِمَ أَبُو مُحَمّدٍ وَحَكَاهُ فِي: أَنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ وَهُوَ وَهْمٌ ظَاهِرٌ فَإِنّهُمْ فَرّقُوا بَيْنَ التّحْرِيمِ فَأَفْتَوْا فِيهِ بِأَنّهُ يَمِينٌ وَبَيْنَ الْخَلِيّةِ فَأَفْتَوْا فِيهَا بِالثّلَاثِ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ إنّهُ ثَلَاثٌ بِكُلّ حَالٍ. الْمَذْهَبُ الثّالِثُ أَنّهُ ثَلَاثٌ فِي حَقّ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَقَعَ مَا نَوَاهُ مِنْ وَاحِدَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَثَلَاثٍ فَإِنْ أَطْلَقَ فَوَاحِدَةٌ وَإِنْ قَالَ لَمْ أُرِدْ طَلَاقًا فَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدّمَ كَلَامٌ يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَيْهِ قُبِلَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءً لَمْ يُقْبَلْ وَإِنْ حَرّمَ أَمَتَهُ أَوْ طَعَامَهُ أَوْ مَتَاعَهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ. الْمَذْهَبُ الرّابِعُ أَنّهُ إنْ نَوَى الطّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا ثُمّ إنْ نَوَى بِهِ الثّلَاثَ فَثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى دُونَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ فِيهَا كَفّارَةٌ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ إيلَاءٌ فِيهِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ. فَإِنْ نَوَى الْكَذِبَ صُدّقَ فِي الْفُتْيَا وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا وَيَكُونُ فِي الْقَضَاءِ إيلَاءً وَإِنْ صَادَفَ غَيْرَ الزّوْجَةِ الْأَمَةَ وَالطّعَامَ وَغَيْرَهُ فَهُوَ يَمِينٌ فِيهِ كَفّارَتُهَا وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ أَنّهُ إنْ نَوَى بِهِ الطّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا وَيَقَعُ مَا نَوَاهُ فَإِنْ أَطْلَقَ وَقَعَتْ وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى الظّهَارَ كَانَ ظِهَارًا وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا ظِهَارٍ فَعَلَيْهِ كَفّارَةُ يَمِينٍ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَالثّانِي: يَلْزَمُهُ كَفّارَةُ يَمِينٍ. وَإِنْ صَادَفَ جَارِيَةً فَنَوَى عِتْقَهَا وَقَعَ الْعِتْقُ وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَهَا لَزِمَهُ بِنَفْسِ اللّفْظِ كَفّارَةُ يَمِينٍ وَإِنْ نَوَى الظّهَارَ مِنْهَا لَمْ يَصِحّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَقِيلَ بَلْ يَلْزَمُهُ كَفّارَةُ يَمِينٍ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَالثّانِي: عَلَيْهِ كَفّارَةُ يَمِينٍ. وَإِنْ صَادَفَ غَيْرَ الزّوْجَةِ وَالْأَمَةِ لَمْ يَحْرُمْ وَلَمْ يَلْزَمْهُ بِهِ شَيْءٌ وَهَذَا مَذْهَبُ الشّافِعِيّ. الْمَذْهَبُ السّادِسُ أَنّهُ ظِهَارٌ بِإِطْلَاقِهِ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ إلّا أَنْ يَصْرِفَهُ بِالنّيّةِ إلَى الطّلَاقِ أَوْ الْيَمِينِ فَيَنْصَرِفَ إلَى مَا نَوَاهُ هَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنّهُ بِإِطْلَاقِهِ يَمِينٌ إلّا أَنْ يَصْرِفَهُ بِالنّيّةِ إلَى الظّهَارِ أَوْ الطّلَاقِ فَيَنْصَرِفَ إلَى مَا نَوَاهُ وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى ثَالِثَةٌ أَنّهُ ظِهَارٌ بِكُلّ حَالٍ وَلَوْ نَوَى غَيْرَهُ وَفِيهِ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ حَكَاهَا أَبُو الْحُسَيْنِ فِي فُرُوعِهِ أَنّهُ طَلَاقٌ بَائِنٌ. وَلَوْ وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ أَعْنِي بِهِ الطّلَاقَ فَعَنْهُ فِيهِ رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا: أَنّهُ طَلَاقٌ فَعَلَى هَذَا هَلْ تَلْزَمُهُ الثّلَاثُ أَوْ وَاحِدَةٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَالثّانِيَةُ أَنّهُ ظِهَارٌ أَيْضًا كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي: أَعْنِي بِهِ الطّلَاقَ هَذَا تَلْخِيصُ مَذْهَبِهِ. الْمَذْهَبُ السّابِعُ أَنّهُ إنْ نَوَى بِهِ ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى بِهِ وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَإِنْ نَوَى بِهِ يَمِينًا فَهِيَ يَمِينٌ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهِيَ كِذْبَةٌ لَا شَيْءَ فِيهَا وَهَذَا مَذْهَبُ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ. الْمَذْهَبُ الثّامِنُ أَنّهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ بِكُلّ حَالٍ وَهَذَا مَذْهَبُ حَمّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ. الْمَذْهَبُ التّاسِعُ أَنّهُ إنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَهَذَا مَذْهَبُ إبْرَاهِيمَ النّخْعِيّ حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ. طَلْقَةٌ رَجْعِيّةٌ حَكَاهُ ابْنُ الصّبّاغِ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ الشّاشِيّ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ. الْمَذْهَبُ الْحَادِي عَشَرَ أَنّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَقَطْ وَلَمْ يَذْكُرْ هَؤُلَاءِ ظِهَارًا وَلَا طَلَاقًا وَلَا يَمِينًا بَلْ أَلْزَمُوهُ مُوجَبَ تَحْرِيمِهِ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ صَحّ هَذَا عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَرِجَالٍ مِنْ الصّحَابَةِ لَمْ يُسَمّوْا وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَصَحّ عَنْ الْحَسَنِ وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَقَتَادَةَ أَنّهُمْ أَمَرُوهُ بِاجْتِنَابِهَا فَقَطْ. الْمَذْهَبُ الثّانِي عَشَرَ التّوَقّفُ فِي ذَلِكَ لَا يُحَرّمُهَا الْمُفْتِي عَلَى الزّوْجِ وَلَا يُحَلّلُهَا لَهُ كَمَا رَوَاهُ الشّعَبِيّ عَنْ عَلِيّ أَنّهُ قَالَ مَا أَنَا بِمُحِلّهَا وَلَا مُحَرّمِهَا عَلَيْك إنْ شِئْتَ فَتَقَدّمْ وَإِنْ شِئْت فَتَأَخّرْ الْمَذْهَبُ الثّالِثَ عَشَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُوقِعَ التّحْرِيمَ مُنَجّزًا أَوْ مُعَلّقًا تَعْلِيقًا مَقْصُودًا وَبَيْنَ أَنْ يُخْرِجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَالْأَوّلُ ظِهَارٌ بِكُلّ حَالٍ وَلَوْ نَوَى بِهِ الطّلَاقَ وَلَوْ وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ أَعْنِي بِهِ الطّلَاقَ.
وَالثّانِي: يَمِينٌ يَلْزَمُهُ بِهِ كَفّارَةُ يَمِينٍ فَإِذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ أَوْ إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فَأَنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ فَظِهَارٌ وَإِذَا قَالَ إنْ سَافَرْت أَوْ إنْ أَكَلْت هَذَا الطّعَامَ أَوْ كَلّمْتُ فُلَانًا فَامْرَأَتِي عَلَيّ حَرَامٌ فَيَمِينٌ مُكَفّرَةٌ وَهَذَا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيّةَ فَهَذِهِ أُصُولُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَتَفَرّعُ إلَى أَكْثَرِ مِنْ عِشْرِينَ مَذْهَبًا.
فَصْلٌ:
فَأَمّا مَنْ قَالَ التّحْرِيمُ كُلّهُ لَغْوٌ لَا شَيْءَ فِيهِ فَاحْتَجّوا بِأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ لِلْعَبْدِ تَحْرِيمًا وَلَا تَحْلِيلًا وَإِنّمَا جَعَلَ لَهُ تَعَاطِيَ الْأَسْبَابِ الّتِي تَحِلّ بِهَا الْعَيْنُ وَتَحْرُمُ كَالطّلَاقِ وَالنّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْعِتْقِ وَأَمّا مُجَرّدُ قَوْلِهِ حَرّمْت كَذَا وَهُوَ عَلَيّ حَرَامٌ فَلَيْسَ إلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ} [النّحْلُ 116] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ} [التّحْرِيمُ 1] فَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ لِرَسُولِهِ أَنْ يُحَرّمَ مَا أَحَلّ اللّهُ لَهُ فَكَيْفَ يَجْعَلُ لِغَيْرِهِ التّحْرِيمَ؟. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُلّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ وَهَذَا التّحْرِيمُ كَذَلِكَ فَيَكُونُ رَدّا بَاطِلًا. قَالُوا: وَلِأَنّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَكَمَا أَنّ هَذَا الثّانِيَ لَغْوٌ لَا أَثَرَ لَهُ فَكَذَلِكَ الْأَوّلُ. قَالُوا: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِطَعَامِهِ هُوَ عَلَيّ حَرَامٌ. قَالُوا: وَقَوْلُهُ. أَنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ إمّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ إنْشَاءَ تَحْرِيمِهَا أَوْ الْإِخْبَارَ عَنْهَا بِأَنّهَا حَرَامٌ وَإِنْشَاءُ تَحْرِيمٍ مُحَالٌ فَإِنّهُ لَيْسَ إلَيْهِ إنّمَا هُوَ إلَى مَنْ أَحَلّ الْحَلَالَ وَحَرّمَ الْحَرَامَ وَشَرَعَ الْأَحْكَامَ وَإِنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ فَهُوَ كَذِبٌ فَهُوَ إمّا خَبَرٌ كَاذِبٌ أَوْ إنْشَاءٌ بَاطِلٌ وَكِلَاهُمَا لَغْوٌ مِنْ الْقَوْلِ. قَالُوا: وَنَظَرْنَا فِيمَا سِوَى هَذَا الْقَوْلِ فَرَأَيْنَاهَا أَقْوَالًا مُضْطَرِبَةً مُتَعَارِضَةً يَرُدّ بَعْضُهَا بَعْضًا فَلَمْ نُحَرّمْ الزّوْجَةَ بِشَيْءٍ مِنْهَا بِغَيْرِ بُرْهَانٍ مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ فَنَكُونَ قَدْ ارْتَكَبْنَا أَمْرَيْنِ تَحْرِيمَهَا عَلَى الْأَوّلِ وَإِحْلَالَهَا لِغَيْرِهِ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ النّكَاحِ حَتّى تُجْمِعَ الْأُمّةُ أَوْ يَأْتِيَ بُرْهَانٌ مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى زَوَالِهِ فَيَتَعَيّنُ الْقَوْلُ بِهِ فَهَذَا حُجّةُ هَذَا الْفَرِيقِ.
فَصْلٌ:
وَأَمّا مَنْ قَالَ إنّهُ ثَلَاثٌ بِكُلّ حَالٍ إنْ ثَبَتَ هَذَا عَنْهُ فَيَحْتَجّ لَهُ بِأَنّ التّحْرِيمَ جُعِلَ كِنَايَةً فِي الطّلَاقِ وَأَعْلَى أَنْوَاعِهِ تَحْرِيمُ الثّلَاثِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَعْلَى أَنْوَاعِهِ احْتِيَاطًا لِلْأَبْضَاعِ. قَالُوا: وَلِأَنّ الصّحَابَةَ أَفْتَوْا فِي الْخَلِيّةِ وَالْبَرِيّةِ بِأَنّهَا ثَلَاثٌ. قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ عَنْ عَلِيّ وَابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ وَمَعْلُومٌ أَنّ غَايَةَ الْخَلِيّةِ وَالْبَرِيّةِ أَنْ تَصِيرَ إلَى التّحْرِيمِ فَإِذَا صَرّحَ بِالْغَايَةِ فَهِيَ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ ثَلَاثًا وَلِأَنّ الْمُحَرّمَ لَا يَسْبِقُ إلَى وَهْمِهِ تَحْرِيمُ امْرَأَتِهِ بِدُونِ الثّلَاثِ فَكَأَنّ هَذَا اللّفْظَ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيّةً فِي إيقَاعِ الثّلَاثِ. وَأَيْضًا فَالْوَاحِدَةُ لَا تَحْرُمُ إلّا بِعِوَضٍ أَوْ قَبْلَ الدّخُولِ أَوْ عِنْدَ تَقْيِيدِهَا بِكَوْنِهَا بَائِنَةً عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ فَالتّحْرِيمُ بِهَا مُقَيّدٌ فَإِذَا أَطْلَقَ التّحْرِيمَ وَلَمْ يُقَيّدْ انْصَرَفَ إلَى التّحْرِيمِ الْمُطْلَقِ الّذِي يَثْبُتُ قَبْلَ الدّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ وَبِعِوَضٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الثّلَاثُ.
فَصْلٌ:
وَأَمّا مَنْ جَعَلَهُ ثَلَاثًا فِي حَقّ الْمَدْخُولِ بِهَا وَوَاحِدَةً بَائِنَةً فِي حَقّ غَيْرِهَا فَحُجّتُهُ أَنّ الْمَدْخُولَ بِهَا لَا يُحَرّمُهَا إلّا الثّلَاثُ وَغَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تُحَرّمُهَا الْوَاحِدَةُ فَالزّائِدَةُ عَلَيْهَا لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ التّحْرِيمِ فَأَوْرَدَ عَلَى هَؤُلَاءِ أَنّ الْمَدْخُولَ بِهَا يَمْلِكُ الزّوْجُ إبَانَتَهَا بِوَاحِدَةٍ بَائِنَةٍ فَأَجَابُوا بِمَا لَا يُجْدِي عَلَيْهِمْ شَيْئًا وَهُوَ أَنّ الْإِبَانَةَ بِالْوَاحِدَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِأَنّهَا بَائِنَةٌ إبَانَةً مُقَيّدَةً بِخِلَافِ التّحْرِيمِ فَإِنّ الْإِبَانَةَ بِهِ مُطْلَقَةٌ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلّا بِالثّلَاثِ وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُخَلّصُهُمْ مِنْ هَذَا الْإِلْزَامِ فَإِنّ إبَانَةَ التّحْرِيمِ أَعْظَمُ تَقْيِيدًا مِنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً فَإِنّ غَايَةَ الْبَائِنَةِ أَنْ تُحَرّمَهَا وَهَذَا قَدْ صَرّحَ بِالتّحْرِيمِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِبَانَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً.
فَصْلٌ:
وَأَمّا مَنْ جَعَلَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً فِي حَقّ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا فَمَأْخَذُ هَذَا الْقَوْلِ تُفِيدُ عَدَدًا بِوَضْعِهَا وَإِنّمَا تَقْتَضِي بَيْنُونَةً يَحْصُلُ بِهَا التّحْرِيمُ وَهُوَ يَمْلِكُ إبَانَتَهَا بَعْدَ الدّخُولِ بِهَا بِوَاحِدَةٍ بِدُونِ عِوَضٍ كَمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً فَإِنّ الرّجْعَةَ حَقّ لَهُ فَإِذَا أَسْقَطَهَا سَقَطَتْ وَلِأَنّهُ إذَا مَلَكَ إبَانَتَهَا بِعِوَضٍ يَأْخُذُهُ مِنْهَا مَلَكَ الْإِبَانَةَ بِدُونِهِ فَإِنّهُ مُحْسِنٌ بِتَرْكِهِ وَلِأَنّ الْعِوَضَ مُسْتَحَقّ لَهُ لَا عَلَيْهِ فَإِذَا أَسْقَطَهُ وَأَبَانَهَا فَلَهُ ذَلِكَ.
فَصْلٌ:
وَأَمّا مَنْ قَالَ إنّهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيّةٌ فَمَأْخَذُهُ أَنّ التّحْرِيمَ يُفِيدُ مُطْلَقَ انْقِطَاعِ الْمِلْكِ وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْمُتَيَقّنِ مِنْهُ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَلَا تَعَرّضَ فِي اللّفْظِ لَهُ فَلَا يَسُوغُ إثْبَاتُهُ بِغَيْرِ مُوجِبٍ وَإِذَا أَمْكَنَ إعْمَالُ اللّفْظِ فِي الْوَاحِدَةِ فَقَدْ وَفّى بِمُوجَبِهِ فَالزّيَادَةُ عَلَيْهِ لَا مُوجِبَ لَهَا. قَالُوا: وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدّا عَلَى أَصْلِ مَنْ يَجْعَلُ الرّجْعِيّةَ مُحَرّمَةً وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ التّحْرِيمُ أَعَمّ مِنْ تَحْرِيمِ رَجْعِيّةٍ أَوْ تَحْرِيمِ بَائِنٍ فَالدّالّ عَلَى الْأَعَمّ لَا يَدُلّ عَلَى الْأَخَصّ وَإِنْ شِئْتَ قُلْت: الْأَعَمّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصّ أَوْ لَيْسَ الْأَخَصّ مِنْ لَوَازِمِ الْأَعَمّ أَوْ الْأَعَمّ لَا يُنْتِجُ الْأَخَصّ.
فَصْلٌ:
وَأَمّا مَنْ قَالَ يُسْأَلُ عَمّا أَرَادَ مِنْ ظِهَارٍ أَوْ طَلَاقٍ رَجْعِيّ أَوْ مُحَرّمٍ أَوْ يَمِينٍ فَيَكُونُ مَا أَرَادَ مِنْ ذَلِكَ فَمَأْخَذُهُ أَنّ اللّفْظَ لَمْ يُوضَعْ لِإِيقَاعِ الطّلَاقِ خَاصّةً بَلْ هُوَ مُحْتَمِلٌ لِلطّلَاقِ وَالظّهَارِ وَالْإِيلَاءِ فَإِذَا صُرِفَ إلَى بَعْضِهَا بِالنّيّةِ فَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا هُوَ صَالِحٌ لَهُ وَصَرَفَهُ إلَيْهِ بِنِيّتِهِ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا أَرَادَهُ وَلَا يَتَجَاوَزُ بِهِ وَلَا يَقْصُرُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى عِتْقَ أَمَتِهِ بِذَلِكَ عَتَقَتْ وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى الْإِيلَاءَ مِنْ الزّوْجَةِ وَالْيَمِينَ مِنْ الْأَمَةِ لَزِمَهُ مَا نَوَاهُ قَالُوا: وَأَمّا إذَا نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا لَزِمَهُ بِنَفْسِ اللّفْظِ كَفّارَةُ يَمِينٍ اتّبَاعًا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ الّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: إذَا حَرّمَ الرّجُلُ امْرَأَتَهُ فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفّرُهَا وَتَلَا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} قَالَهُ مُجَاهِدٌ فِي الظّهَارِ إنّهُ يَلْزَمُهُ بِمُجَرّدِ التّكَلّمِ بِهِ كَفّارَةُ الظّهَارِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قَوْلُ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ فَإِنّهُ يُوجِبُ الْكَفّارَةَ إذَا لَمْ يُطَلّقْ عَقِيبَهُ عَلَى الْفَوْرِ. قَالُوا: وَلِأَنّ اللّفْظَ يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ وَالْإِخْبَارَ فَإِنْ أَرَادَ الْإِخْبَارَ فَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا هُوَ صَالِحٌ لَهُ فَيُقْبَلُ مِنْهُ. وَإِنْ أَرَادَ الْإِنْشَاءَ سُئِلَ عَنْ السّبَبِ الّذِي حَرّمَهَا بِهِ. فَإِنْ قَالَ أَرَدْت ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ قُبِلَ مِنْهُ لِصَلَاحِيَةِ اللّفْظِ لَهُ وَاقْتِرَانِهِ بِنِيّتِهِ وَإِنْ نَوَى الظّهَارَ كَانَ كَذَلِكَ لِأَنّهُ صَرّحَ بِمُوجَبِ الظّهَارِ لِأَنّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي مُوجَبُهُ التّحْرِيمُ فَإِذَا نَوَى ذَلِكَ بِلَفْظِ التّحْرِيمِ كَانَ ظِهَارًا وَاحْتِمَالُهُ لِلطّلَاقِ بِالنّيّةِ لَا يَزِيدُ عَلَى احْتِمَالِهِ لِلظّهَارِ بِهَا وَإِنْ أَرَادَ تَحْرِيمَهَا مُطْلَقًا فَهُوَ يَمِينٌ مُكَفّرَةٌ لِأَنّهُ امْتِنَاعٌ مِنْهَا بِالتّحْرِيمِ فَهُوَ كَامْتِنَاعِهِ مِنْهَا بِالْيَمِينِ.
فَصْلٌ:
وَأَمّا مَنْ قَالَ إنّهُ ظِهَارٌ إلّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ طَلَاقًا فَمَأْخَذُ قَوْلِهِ أَنّ اللّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلتّحْرِيمِ فَهُوَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزَوْرٌ فَإِنّ الْعَبْدَ لَيْسَ إلَيْهِ التّحْرِيمُ وَالتّحْلِيلُ وَإِنّمَا إلَيْهِ إنْشَاءُ الْأَسْبَابِ الّتِي يُرَتّبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ فَإِذَا حَرّمَ مَا أَحَلّ اللّهُ لَهُ فَقَدْ قَالَ الْمُنْكَرَ وَالزّورَ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي بَلْ هَذَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ظِهَارًا لِأَنّهُ إذَا شَبّهَهَا بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ دَلّ عَلَى التّحْرِيمِ بِاللّزُومِ فَإِذَا صَرّحَ بِتَحْرِيمِهَا فَقَدْ صَرّحَ بِمُوجَبِ التّشْبِيهِ فِي لَفْظِ الظّهَارِ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ظِهَارًا. قَالُوا: وَإِنّمَا جَعَلْنَاهُ طَلَاقًا بِالنّيّةِ فَصَرَفْنَاهُ إلَيْهِ بِهَا لِأَنّهُ يَصْلُحُ كِنَايَةً فِي الطّلَاقِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ بِالنّيّةِ بِخِلَافِ إطْلَاقِهِ فَإِنّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الظّهَارِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا إذْ مِنْ أَصْلِ أَرْبَابِ هَذَا الْقَوْلِ أَنّ تَحْرِيمَ الطّعَامِ وَنَحْوَهُ يَمِينٌ مُكَفّرَةٌ فَإِذَا نَوَى بِتَحْرِيمِ الزّوْجَةِ الْيَمِينَ نَوَى مَا يَصْلُحُ لَهُ اللّفْظُ فَقُبِلَ مِنْهُ.
فَصْلٌ:
قَالَ إنّهُ ظِهَارٌ وَإِنْ نَوَى بِهِ الطّلَاقَ أَوْ وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ أَعْنِي بِهِ الطّلَاقَ فَمَأْخَذُ قَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْرِيرِ كَوْنِهِ ظِهَارًا وَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ ظِهَارًا بِنِيّةِ الطّلَاقِ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي وَنَوَى بِهِ الطّلَاقَ أَوْ قَالَ أَعْنِي بِهِ الطّلَاقَ فَإِنّهُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ الظّهَارِ وَيَصِيرُ طَلَاقًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ إلّا عَلَى قَوْلٍ شَاذّ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ لِمُوَافَقَتِهِ مَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ جَعْلِ الظّهَارِ طَلَاقًا وَنَسْخِ الْإِسْلَامِ لِذَلِكَ وَإِبْطَالِهِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الطّلَاقَ فَقَدْ نَوَى مَا أَبْطَلَهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِمّا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ الظّهَارِ طَلَاقًا وَقَدْ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ شَرْعًا فَلَا تُؤَثّرُ نِيّتُهُ فِي تَغْيِيرِ مَا اسْتَقَرّ عَلَيْهِ حُكْمُ اللّهِ الّذِي حَكَمَ بِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ ثُمّ جَرَى أَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ التّسْوِيَةِ بَيْنَ إيقَاعِ ذَلِكَ وَالْحَلِفِ بِهِ كَالطّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَفَرّقَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ عَلَى أَصْلِهِ فِي التّفْرِيقِ بَيْنَ الْإِيقَاعِ وَالْحَلِفِ كَمَا فَرّقَ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللّهُ وَمَنْ وَافَقَهُمَا بَيْنَ الْبَابَيْنِ فِي النّذْرِ بَيْنَ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ فَيَكُونَ يَمِينًا مُكَفّرَةً وَبَيْنَ أَنْ يُنَجّزَهُ أَوْ يُعَلّقَهُ بِشَرْطٍ يَقْصِدُ وُقُوعَهُ فَيَكُونُ نَذْرًا لَازِمَ الْوَفَاءِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى. قَالَ فَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا أَنْ يُفَرّقُوا بَيْنَ إنْشَاءِ التّحْرِيمِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ فَيَكُونُ فِي الْحَلِفِ بِهِ حَالِفًا يَلْزَمُهُ كَفّارَةُ يَمِينٍ وَفِي تَنْجِيزِهِ أَوْ تَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ مَقْصُودٍ مُظَاهِرًا يَلْزَمُهُ كَفّارَةُ الظّهَارِ وَهَذَا مُقْتَضَى الْمَنْقُولِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا فَإِنّهُ مَرّةً جَعَلَهُ ظِهَارًا وَمَرّةً جَعَلَهُ يَمِينًا.
فَصْلٌ:
وَأَمّا مَنْ قَالَ إنّهُ يَمِينٌ مُكَفّرَةٌ بِكُلّ حَالٍ فَمَأْخَذُ قَوْلِهِ أَنّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَاللّبَاسِ يَمِينٌ تُكَفّرُ بِالنّصّ وَالْمَعْنَى وَآثَارِ الصّحَابَةِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التّحْرِيمُ 1و2] وَلَابُدّ يَكُونَ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ دَاخِلًا تَحْتَ هَذَا الْفَرْضِ لِأَنّهُ سَبَبُهُ وَتَخْصِيصُ مَحَلّ السّبَبِ مِنْ جُمْلَةِ الْعَامّ مُمْتَنِعٌ قَطْعًا إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ أَوّلًا فَلَوْ خُصّ لَخَلَا سَبَبُ الْحُكْمِ عَنْ الْبَيَانِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ فِي غَايَةِ الْقُوّةِ فَسَأَلْتُ عَنْهُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى فَقَالَ نَعَمْ التّحْرِيمُ يَمِينٌ كُبْرَى فِي الزّوْجَةِ كَفّارَتُهَا كَفّارَةُ الظّهَارِ وَيَمِينٌ صُغْرَى فِيمَا عَدَاهَا كَفّارَتُهَا كَفّارَةُ الْيَمِينِ بِاَللّهِ. قَالَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إنّ التّحْرِيمَ يَمِينٌ تُكَفّرُ فَهَذَا تَحْرِيرُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَقْلًا وَتَقْرِيرُهَا اسْتِدْلَالًا وَلَا يَخْفَى- عَلَى مَنْ آثَرَ الْعِلْمَ وَالْإِنْصَافَ وَجَانَبَ التّعَصّبَ وَنُصْرَةَ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَقْوَالِ- الرّاجِحِ مِنْ الْمَرْجُوحِ وَبِاَللّهِ الْمُسْتَعَانُ.
-------------------
.فصل الِاخْتِلَافُ فِي تَحْرِيمِ غَيْرِ الزّوْجَةِ:
وَقَدْ تَبَيّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنّ مَنْ حَرّمَ شَيْئًا غَيْرَ الزّوْجَةِ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَاللّبَاسِ أَوْ أَمَتِهِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَعَلَيْهِ كَفّارَةُ يَمِينٍ وَفِي هَذَا خِلَافٌ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: أَنّهُ لَا يَحْرُمُ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْرُمُ تَحْرِيمًا مُقَيّدًا تُزِيلُهُ الْكَفّارَةُ كَمَا إذَا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَإِنّهُ لَا يَحِلّ لَهُ وَطْؤُهَا حَتّى يُكَفّرَ وَلِأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ سَمّى الْكَفّارَةَ فِي ذَلِكَ تَحِلّةً وَهِيَ مَا يُوجِبُ الْحِلّ فَدَلّ عَلَى ثُبُوتِ التّحْرِيمِ قَبْلَهَا وَلِأَنّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ {لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ} وَلِأَنّهُ تَحْرِيمٌ لِمَا أُبِيحَ لَهُ فَيَحْرُمُ بِتَحْرِيمِهِ كَمَا لَوْ حَرّمَ زَوْجَتَهُ. وَمُنَازِعُوهُ يَقُولُونَ إنّمَا سُمّيَتْ الْكَفّارَةُ تَحِلّةً مِنْ الْحَلّ الّذِي هُوَ ضِدّ الْعَقْدِ لَا مِنْ الْحِلّ الّذِي هُوَ مُقَابِلُ التّحْرِيمِ فَهِيَ تَحِلّ الْيَمِينَ بَعْدَ عَقْدِهَا وَأَمّا قَوْلُهُ: {لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ} لَك فَالْمُرَادُ تَحْرِيمُ الْأَمَةِ أَوْ الْعَسَلِ وَمَنْعُ نَفْسِهِ مِنْهُ وَذَلِكَ يُسَمّى تَحْرِيمًا فَهُوَ تَحْرِيمٌ بِالْقَوْلِ لَا إثْبَاتَ لِلتّحْرِيمِ شَرْعًا. وَأَمّا قِيَاسُهُ عَلَى تَحْرِيمِ الزّوْجَةِ بِالظّهَارِ أَوْ بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ فَلَوْ الْقِيَاسُ لَوَجَبَ تَقْدِيمُ التّكْفِيرِ عَلَى الْحِنْثِ قِيَاسًا عَلَى الظّهَارِ إذْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ وَعِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ التّكْفِيرُ إلّا بَعْدَ الْحِنْثِ فَعَلَى قَوْلِهِمْ يَلْزَمُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ وَلَابُدّ إمّا أَنْ يَفْعَلَهُ حَرَامًا وَقَدْ فَرَضَ اللّهُ تَحِلّةَ الْيَمِينِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْمُحَرّمِ مَفْرُوضًا أَوْ مِنْ ضَرُورَةِ الْمَفْرُوضِ لِأَنّهُ لَا يَصِلُ إلَى التّحِلّةِ إلّا بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَوْ أَنّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى فِعْلِهِ حَلَالًا لِأَنّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفّارَةِ فَيَسْتَفِيدُ بِهَا الْحِلّ وَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ حَرَامٌ مُمْتَنِعٌ هَذَا مَا قِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَبَعْدُ فَلَهَا غَوْرٌ وَفِيهَا دِقّةٌ وَغُمُوضٌ فَإِنّ مَنْ حَرّمَ شَيْئًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَلَفَ بِاَللّهِ عَلَى تَرْكِهِ وَلَوْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ هَتْكُ حُرْمَةِ الْمَحْلُوفِ بِهِ بِفِعْلِهِ إلّا بِالْتِزَامِ الْكَفّارَةِ فَإِذَا الْتَزَمَهَا جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَلَوْ عَزَمَ عَلَى تَرْكِ الْكَفّارَةِ فَإِنّ الشّارِعَ لَا يُبِيحُ لَهُ الْإِقْدَامَ عَلَى فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَيَأْذَنُ لَهُ فِيهِ وَإِنّمَا يَأْذَنُ لَهُ فِيهِ وَيُبِيحُهُ إذَا الْتَزَمَ مَا فَرَضَ اللّهُ مِنْ الْكَفّارَةِ فَيَكُونُ إذْنُهُ لَهُ فِيهِ وَإِبَاحَتُهُ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْهُ بِالْحَلِفِ أَوْ التّحْرِيمِ رُخْصَةً مِنْ اللّهِ لَهُ وَنِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْتِزَامِهِ لِحُكْمِهِ الّذِي فَرَضَ لَهُ مِنْ الْكَفّارَةِ فَإِذَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ بَقِيَ الْمَنْعُ الّذِي عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ إصْرًا عَلَيْهِ فَإِنّ اللّهَ إنّمَا رَفَعَ الْآصَارَ عَمّنْ اتّقَاهُ وَالْتَزَمَ حُكْمَهُ وَقَدْ كَانَتْ الْيَمِينُ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا يَتَحَتّمُ الْوَفَاءُ بِهَا وَلَا يَجُوزُ الْحِنْثُ فَوَسّعَ اللّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمّةِ وَجَوّزَ لَهَا الْحِنْثَ بِشَرْطِ الْكَفّارَةِ فَإِذَا لَمْ يُكَفّرْ لَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ لَمْ يُوَسّعْ لَهُ فِي الْحِنْثِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ إنّهُ يَحْرُمُ حَتّى يُكَفّرَ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مُفْرَدَاتِ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد يُوَضّحُهُ أَنّ هَذَا التّحْرِيمَ وَالْحَلِفَ قَدْ تَعَلّقَ بِهِ مَنْعَانِ مَنْعٌ مِنْ نَفْسِهِ لِفِعْلِهِ وَمَنْعٌ مِنْ الشّارِعِ لِلْحِنْثِ بِدُونِ الْكَفّارَةِ فَلَوْ لَمْ يُحَرّمْهُ تَحْرِيمُهُ أَوْ يَمِينُهُ لَمْ يَكُنْ لِمَنْعِهِ نَفْسَهُ وَلَا لِمَنْعِ الشّارِعِ لَهُ أَثَرٌ بَلْ كَانَ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنّ الشّارِعَ أَوْجَبَ فِي ذِمّتِهِ بِهَذَا الْمَنْعِ صَدَقَةً أَوْ عِتْقًا أَوْ صَوْمًا لَا يَتَوَقّفُ عَلَيْهِ حِلّ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَلَا تَحْرِيمُهُ الْبَتّةَ بَلْ هُوَ قَبْلَ الْمَنْعِ وَبَعْدَهُ عَلَى السّوَاءِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ فَلَا يَكُونُ لِلْكَفّارَةِ أَثَرٌ الْبَتّةَ لَا فِي الْمَنْعِ مِنْهُ وَلَا فِي الْإِذْنِ وَهَذَا لَا يَخْفَى فَسَادُهُ.
فَصْلٌ:
الثّانِي: أَنْ يَلْزَمَهُ كَفّارَةٌ بِالتّحْرِيمِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ سَمّيْنَاهُ مِنْ الصّحَابَةِ وَقَوْلُ فُقَهَاءِ الرّأْيِ وَالْحَدِيثِ إلّا الشّافِعِيّ وَمَالِكًا فَإِنّهُمَا قَالَا: لَا كَفّارَةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَاَلّذِينَ أَوْجَبُوا الْكَفّارَةَ أَسْعَدُ بِالنّصّ مِنْ الّذِينَ أَسْقَطُوهَا فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ تَحِلّةَ الْأَيْمَانِ عَقِبَ قَوْلِهِ: {لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ} وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَدْ فُرِضَ فِيهِ تَحِلّةُ الْأَيْمَانِ إمّا مُخْتَصّا بِهِ وَإِمّا شَامِلًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْلَى سَبَبُ الْكَفّارَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي السّيَاقِ عَنْ حُكْمِ الْكَفّارَةِ وَيُعَلّقُ بِغَيْرِهِ وَهَذَا ظَاهِرُ الِامْتِنَاعِ. وَأَيْضًا فَإِنّ الْمَنْعَ مِنْ فِعْلِهِ بِالتّحْرِيمِ كَالْمَنْعِ مِنْهُ بِالْيَمِينِ بَلْ أَقْوَى فَإِنّ الْيَمِينَ إنْ تَضَمّنَ هَتْكَ حُرْمَةِ اسْمِهِ سُبْحَانَهُ فَالتّحْرِيمُ تَضَمّنَ هَتْكَ حُرْمَةِ شَرْعِهِ وَأَمْرِهِ فَإِنّهُ إذَا شَرَعَ الشّيْءَ حَلَالًا فَحَرّمَهُ الْمُكَلّفُ كَانَ تَحْرِيمُهُ هَتْكًا لِحُرْمَةِ مَا شَرَعَهُ وَنَحْنُ نَقُولُ لَمْ يَتَضَمّنْ الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ هَتْكَ حُرْمَةِ الِاسْمِ وَلَا التّحْرِيمُ هَتْكَ حُرْمَةِ الشّرْعِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ جِدّا فَإِنّ الْحِنْثَ إمّا جَائِزٌ وَإِمّا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبّ وَمَا جَوّزَ اللّهُ لِأَحَدٍ الْبَتّةَ أَنْ يَهْتِكَ حُرْمَةَ اسْمِهِ وَقَدْ شَرَعَ لِعِبَادِهِ الْحِنْثَ مَعَ الْكَفّارَةِ وَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ إذَا حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا كَفّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَأَتَى الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَمَعْلُومٌ أَنّ هَتْكَ حُرْمَةِ اسْمِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُبَحْ فِي شَرِيعَةٍ قَطّ وَإِنّمَا الْكَفّارَةُ كَمَا سَمّاهَا اللّهُ تَعَالَى تَحِلّةً وَهِيَ تَفْعِلَةٌ مِنْ الْحَلّ فَهِيَ تَحِلّ مَا عُقِدَ بِهِ الْيَمِينُ لَيْسَ إلّا وَهَذَا وَظَهَرَ سِرّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلّةَ أَيْمَانِكُمْ} عَقِيبَ قَوْلِهِ: {لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكَ}
.فصل الْحُكْمُ فِي تَحْرِيمِ الْأَمَةِ:
الثّالِثُ أَنّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ التّحْرِيمِ فِي غَيْرِ الزّوْجَةِ بَيْنَ الْأَمَةِ وَغَيْرِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ إلّا الشّافِعِيّ وَحْدَهُ أَوْجَبَ فِي تَحْرِيمِ الْأَمَةِ خَاصّةً كَفّارَةَ يَمِينٍ إذْ التّحْرِيمُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْأَبْضَاعِ عِنْدَهُ دُونَ غَيْرِهَا. وَأَيْضًا فَإِنّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ تَحْرِيمُ الْجَارِيَةِ فَلَا يَخْرُجُ مَحَلّ السّبَبِ عَنْ الْحُكْمِ وَيَتَعَلّقُ بِغَيْرِهِ وَمُنَازِعُوهُ يَقُولُونَ النّصّ عَلّقَ فَرْضَ تَحِلّةِ الْيَمِينِ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَهُوَ أَعَمّ مِنْ تَحْرِيمِ الْأَمَةِ وَغَيْرِهَا فَتَجِبُ الْكَفّارَةُ حَيْثُ وُجِدَ سَبَبُهَا وَقَدْ تَقَدّمَ تَقْرِيرُهُ.
.حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَوْلِ الرّجُلِ لِامْرَأَتِهِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ:
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ: أَنّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمّا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ أَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْك فَقَالَ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ. وَثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ: أَنّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَمّا أَتَاهُ رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَعْتَزِلَ امْرَأَتَهُ قَالَ لَهَا: «الْحَقِي بِأَهْلِك».
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَيْسَ هَذَا بِطَلَاقٍ وَلَا يَقَعُ بِهِ الطّلَاقُ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظّاهِرِ. قَالُوا: وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ عَقَدَ عَلَى ابْنَةِ الْجَوْنِ وَإِنّمَا أَرْسَلَ إلَيْهَا لِيَخْطُبَهَا. قَالُوا: وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ: مِنْ حَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ أُتِيَ بِالْجَوْنِيّةِ فَأُنْزِلَتْ فِي بَيْتِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ النّعْمَانِ بْنِ شَرَاحِيلَ فِي نَخْلٍ وَمَعَهَا دَابّتُهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ هَبِي لِي نَفْسَكِ فَقَالَتْ وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسّوقَةِ فَأَهْوَى لِيَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ فَقَالَتْ أَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْك فَقَالَ قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ ثُمّ خَرَجَ فَقَالَ يَا أَبَا أُسَيْدٍ اُكْسُهَا رَازِقِيّيْنِ وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ ذَكَرْت لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ امْرَأَةً مِنْ الْعَرَبِ فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهَا فَأَرْسَلَ إلَيْهَا فَقَدِمَتْ فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَةَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى جَاءَهَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكّسَةٌ رَأْسَهَا فَلَمّا كَلّمَهَا قَالَتْ أَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْك قَالَ قَدْ أَعَذْتُكِ مِنّي فَقَالُوا لَهَا: أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا؟ قَالَتْ لَا قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَاءَك لِيَخْطُبَك قَالَتْ أَنَا كُنْتُ أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ قَالُوا: وَهَذِهِ كُلّهَا أَخْبَارٌ عَنْ قِصّةٍ وَاحِدَةٍ فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ وَهِيَ صَرِيحَةٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ تَزَوّجَهَا بَعْدُ وَإِنّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا لِيَخْطُبَهَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ- مِنْهُمْ الْأَئِمّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ- بَلْ هَذَا مِنْ أَلْفَاظِ الطّلَاقِ إذَا نَوَى بِهِ الطّلَاقَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ: أَنّ أَبَانَا إسْمَاعِيلَ بْنَ إبْرَاهِيمَ قَالَ لَهَا إبْرَاهِيمُ: مُرِيهِ فَلْيُغَيّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ الْعَتَبَةُ وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَك الْحَقِي بِأَهْلِك وَحَدِيثُ عَائِشَةَ كَالصّرِيحِ فِي أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ عَقَدَ عَلَيْهَا فَإِنّهَا قَالَتْ لَمّا أُدْخِلْت عَلَيْهِ فَهَذَا دُخُولُ الزّوْجِ بِأَهْلِهِ وَيُؤَكّدُهُ قَوْلُهَا: وَدَنَا مِنْهَا. وَأَمّا حَدِيثُ أَبِي أُسَيْدٍ فَغَايَةُ مَا فِيهِ قَوْلُهُ هَبِي لِي نَفْسَكِ وَهَذَا لَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ لَمْ يَتَقَدّمْ نِكَاحُهُ لَهَا وَجَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْتِدْعَاءً مِنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلدّخُولِ لَا لِلْعَقْدِ. وَأَمّا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَهُوَ أَصْرَحُهَا فِي أَنّهُ لَمْ يَكُنْ وُجِدَ عَقْدٌ فَإِنّ فِيهِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا جَاءَ إلَيْهَا قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَاءَ لِيَخْطُبَك وَالظّاهِرُ أَنّهَا هِيَ الْجَوْنِيّةُ لِأَنّ سَهْلًا قَالَ فِي حَدِيثِهِ فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهَا فَأَرْسَلَ إلَيْهَا. فَالْقِصّةُ وَاحِدَةٌ دَارَتْ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَأَبِي أُسَيْدٍ وَسَهْلٍ وَكُلّ مِنْهُمْ رَوَاهَا وَأَلْفَاظُهُمْ فِيهَا مُتَقَارِبَةٌ وَيَبْقَى التّعَارُضُ بَيْنَ قَوْلِهِ جَاءَ لِيَخْطُبَك وَبَيْنَ قَوْلِهِ فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهَا وَدَنَا مِنْهَا: فَإِمّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ اللّفْظَيْنِ وَهْمًا أَوْ الدّخُولُ لَيْسَ دُخُولَ الرّجُلِ عَلَى امْرَأَتِهِ بَلْ الدّخُولُ الْعَامّ وَهَذَا مُحْتَمَلٌ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا فِي قِصّةِ إسْمَاعِيلَ صَرِيحٌ وَلَمْ يَزَلْ هَذَا اللّفْظُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الّتِي يُطَلّقُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَالْإِسْلَامِ وَلَمْ يُغَيّرْهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ أَقَرّهُمْ عَلَيْهِ وَقَدْ أَوْقَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الطّلَاقَ وَهُمْ الْقُدْوَةُ بِأَنْتِ حَرَامٌ وَأَمْرُكِ بِيَدِك وَاخْتَارِي. وَوَهَبْتُك لِأَهْلِك وَأَنْتِ خَلِيّةٌ وَقَدْ خَلَوْتِ مِنّي وَأَنْتِ بَرِيّةٌ وَقَدْ أَبْرَأْتُك وَأَنْتِ مُبَرّأَةٌ وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك وَأَنْتِ الْحَرَجُ. فَقَالَ عَلِيّ وَابْنُ عُمَرَ: الْخَلِيّةُ ثَلَاثٌ وَقَالَ عُمَرُ: وَاحِدَةٌ وَهُوَ أَحَقّ بِهَا وَفَرّقَ مُعَاوِيَةُ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ قَالَ لَهَا: إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ خَلِيّةٌ وَقَالَ عَلِيّ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ وَزَيْدٌ فِي الْبَرِيّةِ إنّهَا ثَلَاثٌ. وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ هِيَ وَاحِدَةٌ وَهُوَ أَحَقّ بِهَا وَقَالَ عَلِيّ فِي الْحَرَجِ هِيَ ثَلَاثٌ وَقَالَ عُمَرُ: وَاحِدَةٌ وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ أَقْوَالِهِمْ فِي أَمْرُك بِيَدِك وَأَنْتِ حَرَامٌ. وَاللّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الطّلَاقَ وَلَمْ يُعَيّنْ لَهُ لَفْظًا فَعُلِمَ أَنّهُ رَدّ النّاسَ إلَى مَا يَتَعَارَفُونَهُ طَلَاقًا فَأَيّ لَفْظٍ جَرَى عُرْفُهُمْ بِهِ وَقَعَ بِهِ الطّلَاقُ مَعَ النّيّةِ. وَالْأَلْفَاظُ لَا تُرَادُ لِعَيْنِهَا بَلْ لِلدّلَالَةِ عَلَى مَقَاصِدِ لَافِظِهَا فَإِذَا تَكَلّمَ بِلَفْظٍ دَالّ عَلَى مَعْنًى وَقَصَدَ بِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى تَرَتّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَلِهَذَا يَقَعُ الطّلَاقُ مِنْ الْعَجَمِيّ وَالتّرْكِيّ وَالْهِنْدِيّ بِأَلْسِنَتِهِمْ بَلْ لَوْ طَلّقَ أَحَدُهُمْ بِصَرِيحِ الطّلَاقِ بِالْعَرَبِيّةِ وَلَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ قَطْعًا فَإِنّهُ تَكَلّمَ بِمَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وَلَا قَصْدُهُ وَقَدْ دَلّ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى أَنّ الطّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهَذَا اللّفْظِ وَأَمْثَالِهِ إلّا بِالنّيّةِ.
.تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ بِأَنّ جَمِيعَ الْأَلْفَاظِ صَرِيحِهَا وَكِنَايَتِهَا لَا تَقَعُ إلّا بِالنّيّةِ:
وَالصّوَابُ أَنّ ذَلِكَ جَارٍ فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ صَرِيحِهَا وَكِنَايَتِهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْعِتْقِ وَالطّلَاقِ فَلَوْ قَالَ غُلَامِي غُلَامٌ حُرّ لَا يَأْتِي الْفَوَاحِشَ أَوْ أَمَتِي أَمَةٌ حُرّةٌ لَا تَبْغِي الْفُجُورَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ الْعِتْقُ وَلَا نَوَاهُ لَمْ يَعْتِقْ بِذَلِكَ قَطْعًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فِي طَرِيقٍ فَافْتَرَقَا فَقِيلَ لَهُ أَيْنَ امْرَأَتُك؟ فَقَالَ فَارَقْتهَا أَوْ سَرّحَ شَعْرَهَا وَقَالَ سَرّحْتُهَا وَلَمْ يُرِدْ طَلَاقًا لَمْ تَطْلُقْ. كَذَلِكَ إذَا ضَرَبَهَا الطّلْقُ وَقَالَ لِغَيْرِهِ إخْبَارًا عَنْهَا بِذَلِكَ إنّهَا طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي وَثَاقٍ فَأَطْلَقَتْ مِنْهُ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَرَادَ مِنْ الْوَثَاقِ. هَذَا كُلّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي بَعْضِ هَذِهِ الصّوَرِ وَبَعْضُهَا نَظِيرُ مَا نُصّ عَلَيْهِ وَلَا يَقَعُ الطّلَاقُ بِهِ حَتّى يَنْوِيَهُ وَيَأْتِيَ بِلَفْظٍ دَالّ عَلَيْهِ فَلَوْ انْفَرَدَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ عَنْ الْآخَرِ لَمْ يَقَعْ الطّلَاقُ وَلَا الْعِتَاقُ وَتَقْسِيمُ الْأَلْفَاظِ إلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ وَإِنْ كَانَ تَقْسِيمًا صَحِيحًا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لَكِنْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ فَلَيْسَ حُكْمًا ثَابِتًا لِلّفْظِ لِذَاتِهِ فَرُبّ لَفْظٍ صَرِيحٍ عِنْدَ قَوْمٍ كِنَايَةٌ عِنْدَ آخَرِينَ أَوْ صَرِيحٌ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ كِنَايَةٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الزّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ فَهَذَا لَفْظُ السّرَاحِ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يَسْتَعْمِلُهُ فِي الطّلَاقِ لَا صَرِيحًا وَلَا يُقَالَ إنّ مَنْ تَكَلّمَ بِهِ لَزِمَهُ طَلَاقُ امْرَأَتِهِ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ وَيَدّعِي أَنّهُ ثَبَتَ لَهُ عُرْفُ الشّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالُ فَإِنّ هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ شَرْعًا وَاسْتِعْمَالًا أَمّا الِاسْتِعْمَالُ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُطَلّقُ بِهِ الْبَتّةَ وَأَمّا الشّرْعُ فَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ الطّلَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّونَهَا فَمَتّعُوهُنّ وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الْأَحْزَابُ 49] فَهَذَا السّرَاحُ غَيْرُ الطّلَاقِ قَطْعًا وَكَذَلِكَ الْفِرَاقُ اسْتَعْمَلَهُ الشّرْعُ فِي غَيْرِ الطّلَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} إلَى قَوْلِهِ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ} [الطّلَاقُ 2] فَالْإِمْسَاكُ هُنَا: الرّجْعَةُ وَالْمُفَارَقَةُ تَرْكُ الرّجْعَةِ لَا إنْشَاءَ طَلْقَةٍ ثَانِيَةٍ هَذَا مِمّا لَا خِلَافَ فِيهِ الْبَتّةَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنّ مَنْ تَكَلّمَ بِهِ طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ فُهِمَ مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ يُفْهَمْ وَكِلَاهُمَا فِي الْبُطْلَانِ سَوَاءٌ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.
.حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الظّهَارِ وَبَيَانُ مَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَعْنَى الْعَوْدِ الْمُوجِبِ لِلْكَفّارَةِ:
قَالَ تَعَالَى: {الّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنّ أُمّهَاتِهِمْ إِنْ أُمّهَاتُهُمْ إِلّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الْمُجَادَلَةُ 2- 4]. ثَبَتَ فِي السّنَنِ والْمَسَانِيدِ أَنّ أَوْسَ بْنَ الصّامِتِ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَهِيَ الّتِي جَادَلَتْ فِيهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاشْتَكَتْ إلَى اللّهِ وَسَمِعَ اللّهُ شَكْوَاهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَوْسَ بْنَ الصّامِتِ تَزَوّجَنِي وَأَنَا شَابّةٌ مَرْغُوبٌ فِيّ فَلَمّا خَلَا سِنّي وَنَثَرَتْ لَهُ بَطْنِي جَعَلَنِي فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا عِنْدِي فِي أَمْرِك شَيْءٌ فَقَالَتْ اللّهُمّ إنّي أَشْكُو إلَيْك وَرُوِيَ أَنّهَا قَالَتْ إنّ لِي صِبْيَةً صِغَارًا إنْ ضَمّهُمْ إلَيْهِ ضَاعُوا وَإِنْ ضَمَمْتهمْ إلَيّ جَاعُوا فَنَزَلَ الْقُرْآنُ وَقَالَتْ عَائِشَةُ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ لَقَدْ جَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ تَشْكُو إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا فِي كِسْرِ الْبَيْتِ يَخْفَى عَلَيّ بَعْضُ كَلَامِهَا فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ {قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللّهِ وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الْمُجَادَلَةُ 1]. فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُعْتِقْ رَقَبَةً قَالَتْ لَا يَجِدُ قَالَ فَيَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ قَالَ فَلْيُطْعِمْ سِتّينَ مِسْكِينًا قَالَتْ مَا عِنْدَهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَصَدّقُ بِهِ قَالَتْ فَأُتِيَ سَاعَتئِذٍ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ قُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّي أُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ قَالَ أَحْسَنْتِ فَأَطْعِمِي عَنْهُ سِتّينَ مِسْكِينًا وَارْجِعِي إلَى ابْنِ عَمّكِ وَفِي السّنَنِ أَنّ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ الْبَيّاضِيّ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ مُدّةَ شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمّ وَاقَعَهَا لَيْلَةً قَبْلَ انْسِلَاخِهِ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْتَ بِذَاكَ يَا سَلَمَةَ قَالَ قُلْت: أَنَا بِذَاكَ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّتَيْنِ وَأَنَا صَابِرٌ لِأَمْرِ اللّهِ فَاحْكُمْ فِيّ بِمَا أَرَاك اللّهُ قَالَ حَرّرْ رَقَبَةً قُلْتُ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ نَبِيّا مَا أَمْلِكُ رَقَبَةً غَيْرَهَا وَضَرَبْتُ صَفْحَةَ رَقَبَتِي قَالَ فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ وَهَلْ أَصَبْتُ الّذِي أَصَبْتُ إلّا فِي الصّيَامِ قَالَ فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتّينَ مِسْكِينًا قُلْت: وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَقَدْ بِتْنَا وَحْشَيْنِ مَا لَنَا طَعَامٌ قَالَ فَانْطَلِقْ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةٍ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْكَ فَأَطْعِمْ سِتّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ وَكُلْ أَنْتَ وَعِيَالُكَ بَقِيّتَهَا قَالَ فَرُحْتُ إلَى قَوْمِي فَقُلْتُ وَجَدْت عِنْدَكُمْ الضّيقَ وَسُوءَ الرّأْيِ وَوَجَدْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّعَةَ وَحُسْنَ الرّأْيِ وَقَدْ أَمَرَ لِي بِصَدَقَتِكُمْ وَفِي جَامِعِ التّرْمِذِيّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَجُلًا أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي ظَاهَرْتُ مِنْ امْرَأَتِي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أَكْفُرَ قَالَ وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللّهُ قَالَ رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ قَالَ فَلَا تَقْرَبْهَا حَتّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللّهُ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَظَاهِرِ يُوَاقِعُ قَبْلَ أَنْ يُكَفّرَ فَقَالَ كَفّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ انْتَهَى وَفِيهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَسَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ. وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ أَتَى رَجُلٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّي ظَاهَرْتُ مِنْ امْرَأَتِي ثُمّ وَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أَكْفُرَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَمْ يَقُلْ اللّهُ {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا}؟ فَقَالَ أَعْجَبَتْنِي فَقَالَ أَمْسِكْ عَنْهَا حَتّى تُكَفّرَ قَالَ الْبَزّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى بِإِسْنَادٍ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا عَلَى أَنّ إسْمَاعِيلَ بْنَ مُسْلِمٍ قَدْ تَكَلّمَ فِيهِ وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. فَتَضَمّنَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ أُمُورًا.
--------------------
إبْطَالُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيّةِ مِنْ كَوْنِ الظّهَارِ طَلَاقًا وَكَذَا إنْ نَوَى بِهِ الطّلَاقَ:
أَحَدُهَا: إبْطَالُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَفِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ كَوْنِ الظّهَارِ طَلَاقًا وَلَوْ صَرّحَ بِنِيّتِهِ لَهُ فَقَالَ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي أَعْنِي بِهِ الطّلَاقَ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا وَكَانَ ظِهَارًا وَهَذَا بِالِاتّفَاقِ إلّا مَا عَسَاهُ مِنْ خِلَافٍ شَاذّ وَقَدْ نَصّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَالشّافِعِيّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ الشّافِعِيّ: وَلَوْ ظَاهَرَ يُرِيدُ طَلَاقًا كَانَ ظِهَارًا أَوْ طَلّقَ يُرِيدُ ظِهَارًا كَانَ طَلَاقًا هَذَا لَفْظُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى مَذْهَبِهِ خِلَافُ هَذَا وَنَصّ أَحْمَدَ: عَلَى أَنّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي أَعْنِي بِهِ الطّلَاقَ أَنّهُ ظِهَارٌ وَلَا تَطْلُقُ بِهِ وَهَذَا لِأَنّ الظّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيّةِ فَنُسِخَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَادَ إلَى الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ. وَأَيْضًا فَأَوْسُ بْنُ الصّامِتِ إنّمَا نَوَى بِهِ الطّلَاقَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الظّهَارِ دُونَ الطّلَاقِ. وَأَيْضًا فَإِنّهُ صَرِيحٌ فِي حُكْمِهِ فَلَمْ يَجُزْ جَعْلُهُ كِنَايَةً فِي الْحُكْمِ الّذِي عَزّ وَجَلّ بِشَرْعِهِ وَقَضَاءُ اللّهِ أَحَقّ وَحُكْمُ اللّهِ أَوْجَبُ.
.حُرْمَةُ الظّهَارِ:
وَمِنْهَا أَنّ الظّهَارَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ لِأَنّهُ كَمَا أَخْبَرَ اللّهُ عَنْهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ جِهَةِ كَوْنِهِ مُنْكَرًا وَجِهَةِ كَوْنِهِ زُورًا أَنّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي يَتَضَمّنُ إخْبَارَهُ عَنْهَا بِذَلِكَ وَإِنْشَاءَهُ تَحْرِيمَهَا فَهُوَ يَتَضَمّنُ إخْبَارًا وَإِنْشَاءً فَهُوَ خَبَرٌ زُورٌ وَإِنْشَاءٌ مُنْكَرٌ فَإِنّ الزّورَ هُوَ الْبَاطِلُ خِلَافُ الْحَقّ الثّابِتِ وَالْمُنْكَرَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ وَخَتَمَ سُبْحَانَهُ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ} وَفِيهِ إشْعَارٌ بِقِيَامِ سَبَبِ الْإِثْمِ الّذِي لَوْلَا عَفْوُ اللّهِ وَمَغْفِرَتُهُ لَآخَذَ بِهِ. وَمِنْهَا: أَنّ الْكَفّارَةَ لَا تَجِبُ بِنَفْسِ الظّهَارِ وَإِنّمَا تَجِبُ بِالْعَوْدِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَرَوَى الثّوْرِيّ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ إذَا تَكَلّمَ بِالظّهَارِ فَقَدْ لَزِمَهُ وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قَالَ جَعَلَهَا عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمّهِ ثُمّ يَعُودُ فَيَطَؤُهَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. وَحَكَى النّاسُ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنّهُ تَجِبُ الْكَفّارَةُ بِنَفْسِ الظّهَارِ وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ الثّوْرِيّ وَعُثْمَانَ الْبَتّيّ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ أَنّ الْعَوْدَ شَرْطٌ فِي الْكَفّارَةِ وَلَكِنْ الْعَوْدُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْعَوْدُ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ التّظَاهُرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصّيْدِ {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ} [الْمَائِدَةُ 95] أَيْ عَادَ إلَى الِاصْطِيَادِ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهِ وَلِهَذَا قَالَ: {عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ} [الْمَائِدَةُ 95] قَالُوا: وَلِأَنّ الْكَفّارَةَ إنّمَا وَجَبَتْ فِي مُقَابَلَةِ مَا تَكَلّمَ بِهِ مِنْ الْمُنْكَرِ وَالزّورِ وَهُوَ الظّهَارُ دُونَ الْوَطْءِ أَوْ الْعَزْمِ عَلَيْهِ قَالُوا: وَلِأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمّا حَرّمَ الظّهَارَ وَنَهَى عَنْهُ كَانَ الْعَوْدُ هُوَ فِعْلُ الْمَنْهِيّ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَسَى رَبّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الْإِسْرَاءُ: 8] أَيْ إنْ عُدْتُمْ إلَى الذّنْبِ عُدْنَا إلَى الْعُقُوبَةِ؟ فَالْعَوْدُ هُنَا نَفْسُ فِعْلِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ. قَالُوا: وَلِأَنّ الظّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيّةِ فَنُقِلَ حُكْمُهُ مِنْ الطّلَاقِ يَكُونَ حُكْمُهُ مُعْتَبَرًا بِلَفْظِهِ كَالطّلَاقِ. وَنَازَعَهُمْ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا: إنّ الْعَوْدَ أَمْرٌ وَرَاءَ مُجَرّدِ لَفْظِ الظّهَارِ وَلَا يَصِحّ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعَوْدِ إلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنّ هَذِهِ الْآيَةَ بَيَانٌ لِحُكْمِ مَنْ يُظَاهِرُ فِي الْإِسْلَام وَلِهَذَا أَتَى فِيهَا بِلَفْظِ الْفِعْلِ مُسْتَقْبَلًا فَقَالَ يُظَاهِرُونَ وَإِذَا كَانَ هَذَا بَيَانًا لِحُكْمِ ظِهَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ عِنْدَكُمْ نَفْسُ الْعَوْدِ فَكَيْفَ يَقُولُ بَعْدَهُ ثُمّ يَعُودُونَ وَأَنّ مَعْنَى هَذَا الْعَوْدِ غَيْرُ الظّهَارِ عِنْدَكُمْ؟.
الثّانِي: أَنّهُ لَوْ كَانَ الْعَوْدُ مَا ذَكَرْتُمْ وَكَانَ الْمُضَارِعُ بِمَعْنَى الْمَاضِي كَانَ تَقْدِيرُهُ وَاَلّذِينَ ظَاهَرُوا مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمّ عَادُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمَا وَجَبَتْ الْكَفّارَةُ إلّا عَلَى مَنْ تَظَاهَرَ فِي الْجَاهِلِيّةِ ثُمّ عَادَ فِي الْإِسْلَامِ فَمِنْ أَيْنَ تُوجِبُونَهَا عَلَى مَنْ ابْتَدَأَ الظّهَارَ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ عَائِدٍ؟ فَإِنّ هُنَا أَمْرَيْنِ ظِهَارٌ سَابِقٌ وَعَوْدٌ إلَيْهِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ حُكْمَ الظّهَارِ الْآنَ بِالْكُلّيّةِ إلّا أَنْ تَجْعَلُوا يُظَاهِرُونَ لِفُرْقَةٍ وَيَعُودُونَ لِفُرْقَةٍ وَلَفْظُ الْمُضَارِعِ نَائِبًا عَنْ لَفْظِ الْمَاضِي وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلنّظْمِ وَمُخْرِجٌ عَنْ الْفَصَاحَةِ.
الثّالِثُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ أَوْسَ بْنَ الصّامِتِ وَسَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ بِالْكَفّارَةِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمَا: هَلْ تَظَاهَرَا فِي الْجَاهِلِيّةِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ وَلَمْ يَسْأَلْهُمَا عَنْ الْعَوْدِ الّذِي تَجْعَلُونَهُ شَرْطًا وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَسَأَلَهُمَا عَنْهُ. قِيلَ أَمّا مَنْ يَجْعَلُ الْعَوْدَ نَفْسَ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ الظّهَارِ زَمَنًا يُمْكِنُ وُقُوعُ الطّلَاقِ فِيهِ فَهَذَا جَارٍ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ نَفْسُ حُجّتِهِ وَمَنْ جَعَلَ الْعَوْدَ هُوَ الْوَطْءُ وَالْعَزْمُ قَالَ سِيَاقُ الْقِصّةِ بَيّنٌ فِي أَنّ الْمُتَظَاهِرِينَ كَانَ قَصْدُهُمْ الْوَطْءُ وَإِنّمَا أَمْسَكُوا لَهُ وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى. وَأَمّا كَوْنُ الظّهَارِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا فَنَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنّ عَزّ وَجَلّ إنّمَا أَوْجَبَ الْكَفّارَةَ فِي هَذَا الْمُنْكَرِ وَالزّوْرِ بِأَمْرَيْنِ بِهِ وَبِالْعَوْدِ كَمَا أَنّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ إنّمَا يَتَرَتّبُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْوَطْءِ لَا عَلَى أَحَدِهِمَا.
فَصْلٌ:
وَقَالَ الْجُمْهُورُ لَا تَجِبُ الْكَفّارَةُ إلّا بِالْعَوْدِ بَعْدَ الظّهَارِ ثُمّ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْعَوْدِ هَلْ هُوَ إعَادَةُ لَفْظِ الظّهَارِ بِعَيْنِهِ أَوْ أَمْرٌ وَرَاءَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَالَ أَهْلُ الظّاهِرِ كُلّهُمْ هُوَ إعَادَةُ لَفْظِ الظّهَارِ وَلَمْ يَحْكُوا هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السّلَفِ الْبَتّةَ وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يُسْبَقُوا إلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الشّكَاةُ لَا يَكَادُ مَذْهَبٌ مِنْ الْمَذَاهِبِ يَخْلُو عَنْهَا. قَالُوا: فَلَمْ يُوجِبْ اللّهُ سُبْحَانَهُ الْكَفّارَةَ إلّا بِالظّهَارِ الْمُعَادِ لَا الْمُبْتَدَأِ. قَالُوا: وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنّ الْعَرَبَ لَا يُعْقَلُ فِي لُغَاتِهَا الْعَوْدُ إلَى الشّيْءِ إلّا فِعْلُ مِثْلِهِ مَرّةً ثَانِيَةً قَالُوا: وَهَذَا كِتَابُ اللّهِ وَكَلَامُ رَسُولِهِ وَكَلَامُ الْعَرَبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ رُدّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الْأَنْعَامُ 28] فَهَذَا نَظِيرُ الْآيَةِ سَوَاءٌ فِي أَنّهُ عَدّى فِعْلَ الْعَوْدِ بِاللّامِ وَهُوَ إتْيَانُهُمْ مَرّةً ثَانِيَةً بِمِثْلِ مَا أَتَوْا بِهِ أَوّلًا وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الْإِسْرَاءُ: 8] أَيْ إنْ كَرّرْتُمْ الذّنْبَ كَرّرْنَا الْعُقُوبَةَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نُهُوا عَنِ النّجْوَى ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الْمُجَادَلَةُ 8] وَهَذَا فِي سُورَةِ الظّهَارِ نَفْسِهَا وَهُوَ يُبَيّنُ الْمُرَادَ مِنْ الْعَوْدِ فِيهِ فَإِنّهُ نَظِيرُهُ فِعْلًا وَإِرَادَةً وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ بِذِكْرِهِ. قَالُوا: وَأَيْضًا فَاَلّذِي قَالُوهُ هُوَ لَفْظُ الظّهَارِ فَالْعَوْدُ إلَى الْقَوْلِ هُوَ الْإِتْيَانُ بِهِ مَرّةً ثَانِيَةً لَا تَعْقِلُ الْعَرَبُ غَيْرَ هَذَا. قَالُوا: وَأَيْضًا فَمَا عَدَا تَكْرَارَ اللّفْظِ إمّا إمْسَاكٌ وَإِمّا عَزْمٌ وَإِمّا فِعْلٌ وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا بِقَوْلٍ فَلَا يَكُونُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَوْدًا لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنَى وَلِأَنّ الْعَزْمَ وَالْوَطْءَ وَالْإِمْسَاكَ لَيْسَ ظِهَارًا فَيَكُونَ الْإِتْيَانُ بِهَا عَوْدًا إلَى الظّهَارِ. قَالُوا: وَلَوْ أُرِيدَ بِالْعَوْدِ الرّجُوعُ فِي الشّيْءِ الّذِي مَنَعَ مِنْهُ نَفْسَهُ كَمَا يُقَالُ عَادَ لَقَالَ ثُمّ يَعُودُونَ فِيمَا قَالُوا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ وَاحْتَجّ أَبُو مُحَمّدٍ بْنُ حَزْمٍ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ أَوْسَ بْنَ الصّامِتِ كَانَ بِهِ لَمَمٌ فَكَانَ إذَا اشْتَدّ بِهِ لَمَمُهُ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ كَفّارَةَ الظّهَارِ. فَقَالَ هَذَا يَقْتَضِي التّكْرَارَ وَلَابُدّ قَالَ وَلَا يَصِحّ فِي الظّهَارِ إلّا هَذَا الْخَبَرُ وَحْدَهُ. قَالَ وَأَمّا تَشْنِيعُكُمْ عَلَيْنَا بِأَنّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصّحَابَةِ فَأَرَوْنَا مِنْ الصّحَابَةِ مَنْ قَالَ إنّ الْعَوْدَ هُوَ الْوَطْءُ أَوْ الْعَزْمُ أَوْ الْإِمْسَاكُ أَوْ هُوَ الْعَوْدُ إلَى الظّهَارِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَلَوْ عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْ الصّحَابَةِ فَلَا تَكُونُونَ أَسْعَدَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنّا أَبَدًا.
فَصْلٌ:
وَنَازَعَهُمْ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا: لَيْسَ مَعْنَى الْعَوْدِ إعَادَةَ اللّفْظِ الْأَوّلِ لِأَنّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ هُوَ الْعَوْدَ لَقَالَ ثُمّ يُعِيدُونَ مَا قَالُوا لِأَنّهُ يُقَالُ أَعَادَ كَلَامَهُ بِعَيْنِهِ وَأَمّا عَادَ فَإِنّمَا هُوَ فِي الْأَفْعَالِ كَمَا يُقَالُ عَادَ فِي فِعْلِهِ وَفِي هِبَتِهِ فَهَذَا اسْتِعْمَالُهُ بِفِي. وَيُقَالُ عَادَ إلَى عَمَلِهِ وَإِلَى وِلَايَتِهِ وَإِلَى حَالِهِ وَإِلَى إحْسَانِهِ وَإِسَاءَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَعَادَ لَهُ أَيْضًا. وَأَمّا الْقَوْلُ فَإِنّمَا يُقَالُ أَعَادَهُ كَمَا قَالَ ضِمَادُ بْنُ ثَعْلَبَةَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعِدْ عَلَيّ كَلِمَاتِك وَكَمَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ أَعِدْهَا عَلَيّ يَا رَسُولَ اللّه وَهَذَا لَيْسَ بِلَازِمٍ يُقَالُ أَعَادَ مَقَالَتَهُ وَعَادَ لِمَقَالَتِهِ وَفِي الْحَدِيثِ فَعَادَ لِمَقَالَتِهِ بِمَعْنَى أَعَادَهَا سَوَاءٌ وَأَفْسَدُ مِنْ هَذَا رَدّ مَنْ رَدّ عَلَيْهِمْ بِأَنّ إعَادَةَ الْقَوْلِ مُحَالٌ كَإِعَادَةِ أَمْسٍ. قَالَ لِأَنّهُ لَا يَتَهَيّأُ اجْتِمَاعُ زَمَانَيْنِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ فَإِنّ إعَادَةَ الْقَوْلِ مِنْ جِنْسِ إعَادَةِ الْفِعْلِ وَهِيَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الْأَوّلِ لَا بِعَيْنِهِ وَالْعَجَبُ مِنْ مُتَعَصّبٍ يَقُولُ لَا يُعْتَدّ بِخِلَافِ الظّاهِرِيّةِ وَيُبْحَثُ مَعَهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْبُحُوثِ وَيُرَدّ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ هَذَا الرّدّ وَكَذَلِكَ رَدّ مَنْ رَدّ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ الْعَائِدِ فِي هِبَتِهِ فَإِنّهُ لَيْسَ نَظِيرَ الْآيَةِ وَإِنّمَا نَظِيرُهَا {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نُهُوا عَنِ النّجْوَى ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} وَمَعَ هَذَا فَهَذِهِ الْآيَةُ تُبَيّنُ الْمُرَادَ مِنْ آيَةِ الظّهَارِ فَإِنّ عَوْدَهُمْ لِمَا نُهُوا عَنْهُ هُوَ رُجُوعُهُمْ إلَى نَفْسِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ وَهُوَ النّجْوَى وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ إعَادَةَ تِلْكَ النّجْوَى بِعَيْنِهَا بَلْ رُجُوعُهُمْ إلَى الْمَنْهِيّ عَنْهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الظّهَارِ {يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أَيْ لِقَوْلِهِمْ. فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ تَحْرِيمُ الزّوْجَةِ بِتَشْبِيهِهَا بِالْمُحَرّمَةِ فَالْعَوْدُ إلَى الْمُحَرّمِ هُوَ الْعَوْدُ إلَيْهِ وَهُوَ فِعْلُهُ فَهَذَا مَأْخَذُ مَنْ قَالَ إنّهُ الْوَطْءُ. وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنّ الْقَوْلَ فِي مَعْنَى الْمَقُولِ وَالْمَقُولُ هُوَ التّحْرِيمُ وَالْعَوْدُ لَهُ هُوَ الْعَوْدُ إلَيْهِ وَهُوَ اسْتِبَاحَتُهُ عَائِدًا إلَيْهِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَوَاعِدِ اللّغَةِ الْعَرَبِيّةِ وَاسْتِعْمَالِهَا وَهَذَا الّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السّلَفِ وَالْخَلَفِ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ وَطَاوُوسٌ وَالْحَسَنُ وَالزّهْرِيّ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السّلَفِ أَنّهُ فَسّرَ الْآيَةَ بِإِعَادَةِ اللّفْظِ الْبَتّةَ لَا مِنْ الصّحَابَةِ وَلَا مِنْ التّابِعِينَ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ وَهَاهُنَا أَمْرٌ خَفِيَ عَلَى مَنْ جَعَلَهُ إعَادَةَ اللّفْظِ وَهُوَ أَنّ الْعَوْدَ إلَى الْفِعْلِ يَسْتَلْزِمُ مُفَارَقَةَ الْحَالِ الّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْآنَ وَعَوْدَهُ إلَى الْحَالِ الّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَوّلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الْإِسْرَاءُ 8] أَلَا تَرَى أَنّ عَوْدَهُمْ مُفَارَقَةُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْإِحْسَانِ وَعَوْدُهُمْ إلَى الْإِسَاءَةِ وَكَقَوْلِ الشّاعِرِ وَإِنْ عَادَ لِلْإِحْسَانِ فَالْعَوْدُ أَحْمَدُ وَالْحَالُ الّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْآنَ التّحْرِيمُ بِالظّهَارِ وَاَلّتِي كَانَ عَلَيْهَا إبَاحَةُ الْوَطْءِ بِالنّكَاحِ الْمُوجِبِ لِلْحِلّ فَعَوْدُ الْمُظَاهِرِ عَوْدٌ إلَى حِلّ كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الظّهَارِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْكَفّارَةِ فَتَأَمّلْهُ فَالْعَوْدُ يَقْتَضِي أَمْرًا يَعُودُ إلَيْهِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ وَظَهَرَ سِرّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَوْدِ فِي الْهِبَةِ وَبَيْنَ الْعَوْدِ لِمَا قَالَ الْمُظَاهِرُ فَإِنّ الْهِبَةَ بِمَعْنَى الْمَوْهُوبِ وَهُوَ عَيْنٌ يَتَضَمّنُ عَوْدُهُ فِيهِ إدْخَالَهُ فِي مِلْكِهِ وَتَصَرّفَهُ فِيهِ كَمَا كَانَ أَوّلًا بِخِلَافِ الْمُظَاهِرِ فَإِنّهُ بِالتّحْرِيمِ قَدْ خَرَجَ عَنْ الزّوْجِيّةِ وَبِالْعَوْدِ قَدْ طَلَبَ الرّجُوعَ إلَى الْحَالِ الّتِي كَانَ عَلَيْهَا مَعَهَا قَبْلَ التّحْرِيمِ فَكَانَ الْأَلْيَقُ أَنْ يُقَالَ عَادَ لِكَذَا يَعْنِي: عَادَ إلَيْهِ. وَفِي الْهِبَةِ عَادَ إلَيْهَا وَقَدْ أَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْسَ بْنَ الصّامِتِ وَسَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ بِكَفّارَةِ الظّهَارِ وَلَمْ يَتَلَفّظَا بِهِ مَرّتَيْنِ فَإِنّهُمَا لَمْ يُخْبِرَا بِذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمَا وَلَا أَخْبَرَ بِهِ أَزْوَاجُهُمَا عَنْهُمَا وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصّحَابَةِ وَلَا سَأَلَهُمَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ قُلْتُمَا ذَلِكَ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ؟ وَمِثْلُ هَذَا لَوْ كَانَ شَرْطًا لَمَا أَهْمَلَ بَيَانَهُ. وَسِرّ الْمَسْأَلَةِ أَنّ الْعَوْدَ يَتَضَمّنُ أَمْرَيْنِ أَمْرًا يَعُودُ إلَيْهِ وَأَمْرًا يَعُودُ عَنْهُ وَلَابُدّ مِنْهُمَا فَاَلّذِي يَعُودُ عَنْهُ يَتَضَمّنُ نَقْضَهُ وَإِبْطَالَهُ وَاَلّذِي يَعُودُ إلَيْهِ يَتَضَمّنُ إيثَارَهُ وَإِرَادَتَهُ فَعَوْدُ الْمُظَاهِرِ يَقْتَضِي نَقْضَ الظّهَارِ وَإِبْطَالَهُ وَإِيثَارَ ضِدّهِ وَإِرَادَتَهُ وَهَذَا عَيْنُ فَهْمِ السّلَفِ مِنْ الْآيَةِ فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ إنّ الْعَوْدَ هُوَ الْإِصَابَةُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ الْوَطْءُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ اللّمْسُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ الْعَزْمُ. وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّهُ إنّمَا أَوْجَبَ الْكَفّارَةَ فِي الظّهَارِ الْمُعَادِ إنْ أَرَدْتُمْ بِهِ الْمُعَادَ لَفْظُهُ فَدَعْوَى بِحَسَبِ مَا فَهِمْتُمُوهُ وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ الظّهَارَ الْمُعَادَ فِيهِ لِمَا قَالَ الْمُظَاهِرُ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ إعَادَةَ اللّفْظِ الْأَوّلِ. وَأَمّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فِي ظِهَارِ أَوْسِ بْنِ الصّامِتِ فَمَا أَصَحّهُ وَمَا أَبْعَدَ دَلَالَتُهُ عَلَى مَذْهَبِكُمْ.
.فَصْلٌ مَنْ قَالَ بِأَنّ الْعَوْدَ هُوَ إمْسَاكُهَا زَمَنًا يَتّسِعُ لِقَوْلِهِ أَنْتَ طَالِقٌ:
ثُمّ الّذِينَ جَعَلُوا الْعَوْدَ أَمْرًا غَيْرَ إعَادَةِ اللّفْظِ اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ مُجَرّدُ إمْسَاكِهَا بَعْدَ الظّهَارِ أَوْ أَمْرٌ غَيْرُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ إمْسَاكُهَا زَمَنًا يَتّسِعُ لِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فَمَتَى لَمْ يَصِلْ الطّلَاقَ بِالظّهَارِ لَزِمَتْهُ الْكَفّارَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ. قَالَ مُنَازِعُوهُ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالثّوْرِيّ فَإِنّ هَذَا النّفَسَ الْوَاحِدَ لَا يُخْرِجُ الظّهَارَ عَنْ كَوْنِهِ مُوجَبَ الْكَفّارَةِ فَفِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُوجِبْ الْكَفّارَةَ إلّا لَفْظُ الظّهَارِ وَزَمَنُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ إيجَابًا وَلَا نَفْيًا فَتَعْلِيقُ الْإِيجَابِ بِهِ مُمْتَنِعٌ وَلَا تُسَمّى تِلْكَ اللّحْظَةُ وَالنّفَسُ الْوَاحِدُ مِنْ الْأَنْفَاسِ عَوْدًا لَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي عُرْفِ الشّارِعِ وَأَيّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْجُزْءِ الْيَسِيرِ جِدّا مِنْ الزّمَانِ مِنْ مَعْنَى الْعَوْدِ أَوْ حَقِيقَتِهِ؟. قَالُوا: وَهَذَا لَيْسَ بِأَقْوَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ هُوَ إعَادَةُ اللّفْظِ بِعَيْنِهِ فَإِنّ ذَلِكَ قَوْلٌ مَعْقُولٌ يُفْهَمُ مِنْهُ الْعَوْدُ لُغَةً وَحَقِيقَةً وَأَمّا هَذَا الْجُزْءُ مِنْ الزّمَانِ فَلَا يُفْهَمُ مِنْ الْإِنْسَانِ فِيهِ الْعَوْدُ الْبَتّةَ. قَالُوا: وَنَحْنُ نُطَالِبُكُمْ بِمَا طَالَبْتُمْ بِهِ الظّاهِرِيّةَ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَ الشّافِعِيّ؟ قَالُوا: وَاللّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ الْكَفّارَةَ بِالْعَوْدِ بِحَرْفِ ثُمّ الدّالّةِ عَلَى التّرَاخِي عَنْ الظّهَارِ فَلَا بُدّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْعَوْدِ وَبَيْنَ الظّهَارِ مُدّةٌ مُتَرَاخِيَةٌ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ عِنْدَكُمْ وَبِمُجَرّدِ انْقِضَاءِ قَوْلِهِ أَنْتَ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمّي صَارَ عَائِدًا مَا لَمْ يَصِلْهُ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فَأَيْنَ التّرَاخِي وَالْمُهْلَةُ بَيْنَ الْعَوْدِ وَالظّهَارِ؟ وَالشّافِعِيّ لَمْ يَنْقُلْ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصّحَابَةِ وَالتّابِعِينَ وَإِنّمَا أَخْبَرَ أَنّهُ أَوْلَى الْمَعَانِي بِالْآيَةِ فَقَالَ الّذِي عَقَلْتُ مِمّا سَمِعْتُ فِي {يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أَنّهُ إذَا أَتَتْ عَلَى الْمُظَاهِرِ مُدّةٌ بَعْدَ الْقَوْلِ بِالظّهَارِ لَمْ يُحَرّمْهَا بِالطّلَاقِ الّذِي يَحْرُمُ بِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفّارَةُ كَأَنّهُمْ يَذْهَبُونَ إلَى أَنّهُ إذَا أَمْسَكَ مَا حَرّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَنّهُ حَلَالٌ فَقَدْ عَادَ لِمَا قَالَ فَخَالَفَهُ فَأَحَلّ مَا حَرّمَ وَلَا أَعْلَمُ لَهُ مَعْنًى أَوْلَى بِهِ مِنْ هَذَا. انْتَهَى.
.فصل مَنْ قَالَ بِأَنّ الْعَوْدَ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ:
وَاَلّذِينَ جَعَلُوهُ أَمْرًا وَرَاءَ الْإِمْسَاكِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ مَالِكٌ فِي إحْدَى عُبَيْدٍ: هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَصْحَابِهِ وَأَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَالَ مَالِكٌ يَقُولُ إذَا أَجْمَعَ لَزِمَتْهُ الْكَفّارَةُ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا لَوْ طَلّقَهَا بَعْدَ مَا يَجْمَعُ أَكَانَ عَلَيْهِ كَفّارَةٌ إلّا أَنْ يَكُونَ يَذْهَبُ إلَى قَوْلِ طَاوُسٍ إذَا تَكَلّمَ بِالظّهَارِ لَزِمَهُ مِثْلُ الطّلَاقِ؟.
.مَنْ قَالَ بِأَنّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ أَوْ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ وَالْوَطْءِ مَعًا:
ثُمّ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِيمَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ طَلّقَ بَعْدَ الْعَزْمِ وَقَبْلَ الْوَطْءِ هَلْ تَسْتَقِرّ عَلَيْهِ الْكَفّارَةُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو الْخَطّابِ تَسْتَقِرّ الْكَفّارَةُ. وَقَالَ الْقَاضِي وَعَامّةُ أَصْحَابِهِ لَا تَسْتَقِرّ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ وَحْدَهُ وَرِوَايَةُ الْمُوَطّأِ خِلَافُ هَذَا كُلّهِ أَنّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ وَالْوَطْءِ مَعًا.
.مَنْ قَالَ إنّهُ الْوَطْءُ نَفْسُهُ:
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ أَنّهُ الْوَطْءُ نَفْسُهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قَالَ الْغَشَيَانُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَغْشَى كَفّرَ وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ رِوَايَةٍ بَلْ مَذْهَبُهُ الّذِي لَا يُعْرَفُ عَنْهُ غَيْرُهُ أَنّهُ الْوَطْءُ وَيَلْزَمُهُ إخْرَاجُهَا قَبْلَهُ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَيْهِ.
.حُجَجُ مَنْ قَالَ إنّهُ الْعَزْمُ:
وَاحْتَجّ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْكَفّارَةِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا} فَأَوْجَبَ الْكَفّارَةَ بَعْدَ الْعَوْدِ وَقَبْلَ التّمَاسّ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّ الْعَوْدَ غَيْرُ التّمَاسّ وَأَنّ مَا يَحْرُمُ قَبْلَ الْكَفّارَةِ لَا يَجُوزُ كَوْنُهُ مُتَقَدّمًا عَلَيْهَا. قَالُوا: وَلِأَنّهُ قَصَدَ بِالظّهَارِ تَحْرِيمَهَا وَالْعَزْمُ عَلَى وَطْئِهَا عَوْدٌ فِيمَا قَصَدَهُ. قَالُوا: وَلِأَنّ الظّهَارَ تَحْرِيمٌ فَإِذَا أَرَادَ اسْتِبَاحَتَهَا فَقَدْ رَجَعَ فِي ذَلِكَ التّحْرِيمِ فَكَانَ عَائِدًا.
---------

هناك تعليق واحد:

  1. كل هذه الاجتهادات هم أي العلماء مشكورون هليعا لكنها كانت مواكبة للتشريع المنزل في سورة البقرة الحادث في العامين الأولين للهجرة والذي تبدل لاحقا بنزول سورة الطلاق في العام الخامس أو السادس هجريا وليس أحد من الخلق جميعا بوصي علي الخالق العليم الحكيم وكل البشر دون نبي الله صلي الله عليه وسلم غير معصومين من النسيان والتفاوت في صفات المكنة في الاجتهاد

    ردحذف